الراعي في قداس الشكر لمرور 400 سنة على كاريسما القديس منصور دي بول
عندما قام الربّ يسوع ذات سبت ليقرأ في مجمع الناصرة، كان النصّ من نبوءة أشعيا: "روحُ الربّ عليّ مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين" (أش61: 1). فقال للشّعب الحاضر: "اليوم تمّت هذه الكتابة" (لو4: 21)، ليعني أنّ النّبوءة كُتِبت عنه قبل ستماية سنة، وأنّها تتحقّق فيه اليوم. هو الذي مسحه الرّوح وأرسله ليحمل البشارة للمساكين. وبذلك تحدّدت هويّته ورسالته. هذه الهويّة والرسالة شكَّلتا الموهبة الخاصّة، أي كاريسما القدّيس منصور دي بول، وجمعيّة الرسالة للآباء اللعازريِّين، وجمعيّة راهبات بنات المحبّة، وجمعيّة سيّدات المحبّة، بالإضافة إلى جمعيّات خيريّة ورهبنات إرساليّة. هذه كلّها مجتمعة تشكّل عائلة مار منصور دي بول.
يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وهي قدّاس الشّكر لله على مرور أربعماية سنة من عيش الكاريسما (1617- 2017). وإنّنا نهنِّئ عائلة مار منصور بهذا اليوبيل المئوي الرابع، وبخاصّة على أنّ عناية الله بشفاعة القدِّيس منصور تحفظ الموهبة التي خصّ بها الرّوحُ القدس مؤسّسَ هذه العائلة، ويجدّدها ويرسّخها. وإنّنا نتمنّى لهذه العائلة دوام التّقدّم والإزدهار في مساحات الرّسالة، وفي تلبية نداءات المحبّة المتزايدة بسبب الظروف الإقتصاديّة والمعيشيّة الضّاغطة. ونشكر حضرة الرئيس الاقليمي الاب زياد حداد، والرئيسة الاقليمية الاخت ماري مدلين بستاني على الدعوة، ومن خلالهما جميع الآباء والاخوات.
إكتشف القديس منصور هويّته ورسالته، من خلال ممارسته الكهنوتيّة. الهويّة هي إيّاها التي نالها من مسحة الرّوح في سرَّي المعموديّة والميرون كمسيحي، ثمّ من مسحة الميرون في الكهنوت المقدّس، الذي كان يبغي منه في الأساس وسيلة عيش مضمون وهادئ بقرب أمّه العجوز، لكنّ عين الله كانت ترى في كهنوته أبعد من ذلك، وكانت دعوة الله الخفيّة تريده ليكون الرّسول الكبير لبشارة الإنجيل ولرسالة محبّة الفقراء.
لقد تبلورت موهبة الروح الخاصّة به، المعروفة بالكاريسما، وهي الرسالة والمحبة، من خلال حدثَين حاسمَين في بداية حياته الكهنوتيّة. الأوّل سماع اعتراف رجل عجوز على فراش الموت في رعيّة Gannes، أقرّ بجميع خطاياه الثّقيلة التي كان يُخفيها في اعترافاته السّابقة، ولم يكُنْ يجرؤ على ذكرها حياءً، وكانت تُعذّب ضميره. فأدركَ القديس منصور "الفقر الروحي" لدى الشّعب. وإذ خصّصَ عظة الأحد لضرورة الإعتراف الشامل بالخطايا، رأى المؤمنين يتهافتون بأعداد كبيرة إلى سرّ التوبة. فأدرك في داخله موهبة الرّسالة: "روحُ الربّ عليّ مسحني وأرسلني لأبشِّر المساكين" (لو4: 18).
والحدث الثاني جرى في رعيّة Châtillons. فعندما اطّلع على وضع عائلة يموت أفرادها من الجوع، واكتشفَ "الفقر المادّي" عند الناس، فألقى عظته ورأى المؤمنين يتهافتون لمساعدة تلك العائلة. فأدرك موهبة عمل الرحمة بالشّكل المنظّم.
وهكذا اكتملت عنده الموهبة الخاصّة ببُعدَيها: الرّسالة والمحبّة. وعلى هذا الأساس أنشأ جمعيّة الرسالة وبنات المحبّة والعديد من جمعيّات المحبّة، من أجل الكرازة الفاعلة بالإنجيل، والخدمة الروحيّة والماديّة للفقراء.
فيما تحتفل "عائلة مار منصور" بذكرى 400 سنة على عيش موهبتها هذه، فإنها تجدّد عهدها بحفظ الهوية والرسالة: فتلبس الروح الذي مسح بنعمته أفرادها، وتتّحد أكثر فأكثر بشخص يسوع، وتواصل انطلاقتها بدافع من المحبة التي تحملها على ابتكار سبل جديدة وملائمة وفاعلة لمواجهة الفقر لدى العائلات المتواجدة في مؤسّساتها وفي محيطها، ولمحاربة أسباب الفقر كالحرمان والظلم والعنف والحرب وعدم المساواة في توزيع خيرات الأرض، وروح الأنانية والمادّية، فيما خيرات الأرض معدَّة كلّها من الله لجميع الناس. إنّها تفعل ذلك انطلاقًا من أعمال الرحمة الجسدية والروحيّة التي عدّدها قداسة البابا فرنسيس في يوبيل سنة الرحمة، واستوحاها من كلام الربّ يسوع في إنجيل القدّيس متى (25: 35-36)، وهي على مستوى الجسد: إطعام الجائعين، وسقي العطشى، واستقبال الغرباء، وكسوة العريانين، والاعتناء بالمرضى، وزيارة المسجونين. وعلى مسستوى الروح، هي إسداء المشورة لمَن هم في الشّك، وتعليم الأجيال، وتنبيه الخطأة، وتعزية الحزانى، ومغفرة الإساءة، واحتمال الإزعاج والعقليات الصعبة، وما شابهها من وجوه الحياة الاجتماعية.
"روحُ الربِّ عليَّ، مسحني وأرسلَني". إنّها هويّتنا ورسالتنا نحن المسيحيّين: بمسحة المعموديّة والميرون جعلنا الرّوح "مسيحيّين"، "لابسين المسيح" على ما يقول بولس الرّسول في رسالته إلى الغلاطيّين(3: 27)، فتحدّدت هويّتنا. وبحكم هذه المسحة تسلّمنا رسالة ذات مساحات خمس: الوقوف إلى جانب الفقراء ماديًّا وروحيًّا وثقافيًّا؛ تحرير المأسورين بالعدل والإنصاف، سواء كانوا مأسورين وراء قضبان الحديد، أم داخل عاداتهم السيّئة، أم مستعبدين لأشخاص أو إيديولوجيّات؛ إعادة البصر لعميان العيون والبصائر والقلوب؛ رفع الظّلم عن المقهورين، والمسلوبة حقوقهم والمكبّلة طموحاتهم؛ وجعل الزّمن أكثر قبولًا عند الله.
هذه الهويّة والرّسالة تعنيان الجميع في الكنيسة والمجتمع والدّولة. وهما حاجة ماسّة لقيام مجتمع سليم ودولة عادلة تقدّر جميع المواطنين، فلا تعتمد ولا تسمح بسياسة الإقصاء والإستئثار. وهذا يتنافى وحقّ كلّ مواطن في تطلّعاته وطموحاته، ويُناقض الممارسة الديمقراطيّة السّليمة. فلا محادل مذهبيّة أو حزبيّة في الإنتخابات. ولا يحقّ لهذه أن تطغى على التّنافس الدّيمقراطي. مطلوب من العهد الجديد الرّئاسي والحكومي أن يواصل خطّ المشاركة والتّعدّدية من أجل بناء الوحدة الوطنيّة التي تستجمع كلّ الطّاقات على تنوّعها، أفردية كانت أم جماعية. على هذا الأساس يجب سنّ قانون جديد للإنتخابات، وبهذه الروح يجب إجراؤها.
لقد أوصانا القديس بولس الرّسول "ألّا نُطفىء الرّوح" (1طيم 5: 19)، لئلا نخسر الهويّة، وتضيع الرّسالة. فإنّا بشفاعة القدّيس منصور دي بول، وعلى مثاله،نسأل الله، نعمة المحافظة عليها مثله. وإلى أمّنا مريم العذراء، سيّدة الأيقونة العجائبيّة، نرفع صلاتنا كي نكون دائماً في حالة جهوزيّة والتزام، على مثالها، لقبول إرادة الله وتجسيد محبّة المسيح إبنها تجاه كلّ إنسان. وليتمجّد ويُسبَّح الثالوث القدّوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.