الرّاعي في قدّاس على نيّة المزارعين: من يتمسّك بأرضه يحافظ على وطنه
"1. هذه العبارة البسيطة والعميقة تحمل أبعادًا روحيّة ووطنيّة كبيرة. فالزّرع ليس مجرّد عمل يدويّ أو نشاط اقتصاديّ، بل هو فعل رجاء وإيمان بالغد، ورسالة أمانة للأرض الّتي ورثناها عن آبائنا لنورثها لأولادنا. والمزارع، حين يزرع حبّة القمح في التّراب يؤمن بأنّ الله سيباركها، وبأنّ موسم الحصاد سيأتي رغم الصّعوبات والعواصف. وهذا شأن جميع مزروعاته.
الأرض لا تثمر إلّا لمن يخدمها بأمانة. فمن يعطيها تردّ له العطاء أضعافًا. والزّراعة ليست مجرّد مهنة أو تبادل منفعة، بل هي عهد شراكة ومحبّة بين الإنسان والخليقة. وهي مدرسة تعلّم الإخلاص والأخلاقيّة والصّدق.
2. يسعدني أن أرحبّ بكم جميعًا، وبخاصّة بالقيّمين على القطاع الزّراعيّ وزير الزّراعة الدّكتور نزار هاني والمدير العامّ للوزارة المهندس لويس لحّود وقد تابعنا منذ تشكيل الحكومة الأسلوب الرّاقي بالتّنسيق والتّعاون بينهما لمصلحة القطاع الزّراعيّ. ونحيّي مبادرة وزارة الزّراعة بدعوة المزارعين للمشاركة في القدّاس والصّلاة سنويًّا على نيّة هذا القطاع في كلّ عام منذ سنة ٢٠٢١ في الصّرح البطريركيّ في بكركي وقد اتّفقنا مع المدير العامّ على إقامة هذا القدّاس في كرسينا في الدّيمان تأكيدًا على دور المزارعين في قضاء بشرّي وأقضية الشّمال. ونرحّب بالمزارعين والعاملين في القطاع الزّراعيّ من كلّ المناطق اللّبنانيّة.
كما نرحّب بإقليم جبّة بشرّي، التّابع لكاريتاس لبنان. وهم في قدّاس الشّكر السّنويّ على حملة المشاركة 2025، بموضوع: إيمان، إنسان، لبنان. وأحيّي رئيس الرّابطة الأب ميشال عبّود مع كلّ معاونيه.
3. إنجيل اليوم يروي كيف أنّ بعض الحبّ وقع على قارعة الطّريق فأكلته الطّيور، والبعض الآخر سقط على أرض حجرة فنبت للحال ولكنّه يبس لأنّ لا جذور له، وبعضه سقط بين الشّوك فخنقته، وبعضه في الأرض الطّيّبة فأثمر ثلاثين وستّين ومئة. هذه الصّورة تنطبق على حياتنا الرّوحيّة، وعلى حياتنا الوطنيّة، فالأرض الجيّدة هي القلوب المؤمنة، والضّمائر النّظيفة، والأيادي الأمينة. أمّا الطّريق والأرض الحجرة والشّوك فهي القلوب القاسية، والمصالح الضّيّقة، والطّموحات الأنانيّة الّتي تخنق خير الوطن.
4. ليست الأرض فقط مصدر رزق، بل هي هويّة وجذور. من يتمسّك بأرضه يحافظ على وطنه. ليست الزّراعة قطاعًا ثانويًّا، بل هي ركيزة من ركائز الاقتصاد الوطنيّ، وضمانة لبقاء المواطنين في قراهم وبلداتهم بدل الهجرة والنّزوح.
أجل الأرض تشكّل عنصرًا جوهريًّا من الهويّة الوطنيّة وهذا ما شكّل حافزًا للبطريركيّة والأبرشيّات والرّهبانيّات وأبناء الكنيسة لاستثمار الأراضي في مجال الزّراعة. إنّ تعاونها المستمرّ مع الكلّيّات الزّراعيّة والجمعيّات والنّقابات والتّعاونيّات تبقي المزارع في أرضه وتحدّ من النّزوح والهجرة وبيع الأراضي الزّراعيّة.
5. ولذا، ندعو الدّولة لدعم القطاع الزّراعيّ، وجعله أساسيًّا في الاقتصاد الوطنيّ، وتحسين سبل عيش المزارعين، وتعزيز كفاءة سلاسل الإنتاج الزّراعيّ والغذائيّ وقدرتها التّنافسيّة وتحسين التّكيّف مع التّغيير المناخيّ واستدامة نظم الزّراعة والغذاء والموارد الطّبيعيّة.
دعم المزارع هو دعم للوطن. فحين نهمل المزارعين، نفرغ القرى والبلدات من سكّانها، ونفقد الأمن الغذائيّ، ونضعف سيادتنا الاقتصاديّة. علينا جميعًا، دولة وشعبًا، أن نعيد للزّراعة مكانتها، عبر السّياسات الدّاعمة، والأسواق العادلة، والبنى التّحتيّة، والابتكار الزّراعيّ. فيستطيع لبنان أن ينهض، إذا استثمر في أرضه وشعبه. والمزارع هو الحارس الأوّل لهذه الأرض، والضّامن لثباتنا في كلّ التّحدّيات.
إنّ دعم المزارع ليس إحسانًا، بل هو حماية للهويّة الوطنيّة، ومنع لبيع الأراضي، وحفظ للجذور. المزارع هو حارس الحدود غير المرئيّة للوطن. بعمله اليوميّ يثبّت المواطنين في أراضيهم، ويحافظ على التّوازن بين المدينة والرّيف، ويمنع النّزوح الجماعيّ نحو المجهول. ولهذا، فإنّ حماية الزّراعة هي حماية للبنان الرّسالة، ولتنوّعه، ولمستقبله.
وإنّا نتطلّع إلى دور الانتشار اللّبنانيّ، متمنّين على المنتشرين في أنحاء العالم مواكبة وزارة الزّراعة لتسويق المنتوجات الزّراعيّة النّباتيّة والحيوانيّة والمونة والصّناعات الغذائيّة، ونناشد الهيئات المانحة احتضان القطاع الزّراعيّ للنّهوض به وتأمين شبكة الأمان الغذائيّ وتحويل النّظام الزّراعيّ والغذائيّ اللّبنانيّ لنظام أكثر صمودًا وتنافسًا.
وننوّه بجهود مدير عامّ وزارة الزّراعة وموظّفي الوزارة في السّنوات الأخيرة بتعريف وتسويق النّبيذ اللّبنانيّ في الأسواق المحلّيّة والخارجيّة، وقد أوصلوه إلى العالميّة وانتشر في كلّ قارّات العالم، وقد تجلّى ذلك بالإنجاز العالميّ الجديد الّذي يرفع اسم لبنان على خارطة التّميّز الزّراعيّ والتّراثيّ، إذ أعلنت المنظّمة الدّوليّة للكرمة والنّبيذ خلال الشّهر الماضي اعتماد مدينة زحلة "مدينة عالميّة للكرمة والنّبيذ" لتنضمّ إلى تسعة مدن عالميّة حازت على هذا اللّقب. نبارك لوزارة الزّراعة ولزحلة وللبنان.
7.فيا أيّها المزارعون الأحبّاء، أنتم أكثر من عاملين في الأرض. أنتم حرّاس الإرث، وشهود الإيمان، وصنّاع الأمن الغذائيّ. من دونكم الأرض تُهجر، والقرى تخلو، والحقول تتحوّل إلى حجارة صامتة. دوركم ليس فقط في الزّرع والحصاد، بل في تثبيت الإنسان في أرضه، ومنع نزيف الهجرة الّذي يفرغ لبنان من طاقاته وشبابه.
8.فنصلّي اليوم، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل كلّ مزارع، ومن أجل أن يبارك الله كلّ بذار يزرع، وكلّ يد تتعب، وكلّ موسم يُنتظر بفرح. ولله المجد والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."