لبنان
14 كانون الأول 2020, 06:00

الرّاعي: قضاءُ لبنان منارة العدالة، فارفعوا أياديكم عنه أيّها السّياسيّون والطّائفيّون والمذهبيّون

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي قداس أحد البيان ليوسف في الصّرح البطريركيّ في بكركي، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة بعنوان يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك" (متّى1: 20)، جاء فيها:

"1.تحيي الكنيسة اليوم البيان ليوسف، وهو البشارة الثّالثة بعد البشارة لزكريّا والبشارة لمريم. وهي بشارات يوحي فيها الله ذاته، ويبيّن سرّ الإنسان كمعاون له في تحقيق تدبيره الخلاصيّ. في البشارة ليوسف كشف الله له سرّ حبل مريم خطّيبته من الرّوح القدس، وسرّ أبوّته لابن الله المولود منها. أمام هول السّرّ وحيرة يوسف، ناداه في الحلم بفم الملاك: " لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك" (متى1: 20)، فانجلى السّرّ وزال القلق.

هذا الحدث يدعونا لنفتح دائمًا نافذة على تدبير الله الخلاصيّ، في كلّ لحظة ومرحلة من حياتنا، وفي كلّ مسؤوليّة تُسند إلينا سواء في العائلة أم في المجتمع أم في الكنيسة أم في الدّولة. ولتكن صلاة كلّ واحد وواحدة منّا الدّائمة إلى الله كي يلهمه على اكتشاف إرادة الله عليه، ودوره في التّصميم الإلهيّ.

2. يسعدني أن أحتفل معكم في هذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، أيّها الحاضرون، وجمعيّة أصدقاء المدرسة الرّسميّة في المتن مع فريق "بدنا نعيش" يضمّ أطفالًا من لبنان، والوفد من كتّاب العدل المتدرّجين. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة المرحوم القاضي الرّئيس أنطوان رومانوس الشّدياق، الّذي ودّعناه معهم منذ عشرين يومًا. نصلّي في هذه الذبيحة المقدّسة لراحة نفسه ولعزاء العائلة العزيزة. كما يطيب لي أن أحيّي كلّ الّذين يشاركوننا روحيًّا عبر محطّة تيلي لوميار–نورسات والفيسبوك.

3.بالعودة إلى البشارات الثّلاث، في البشارة لزكريّا كشف الله عن نفسه أنّه إلهٌ رحوم وأمين لوعده. وكشف سرّ يوحنّا إبن زكريّا وأليصابات أنّه الفجر المعلن طلوع الشّمس على البشريّة بشخص يسوع المسيح. فأعلنه في كرازته وهيّأ له القلوب لاستقباله بمعموديّة الماء للتّوبة. في البشارة لمريم كشف الله سرّه بأنّه واحد ومثلّث الأقانيم: آب يُرسل ابنه في ملء الزّمن لخلاص البشر وفداء الإنسان، وإبن أخذ جسدًا بشريًّا من مريم، والرّوح القدس ظلّل بقوّته العذراء. وكشف سرّ مريم المدعوّة لتكون، وهي عذراء، أمّ القدّوس عمّانوئيل الله معنا، أمّ تحبّه بحنان عظيم، وتخضع لتصميم الله والرّسالة الموكولة إليه. أمّا في البشارة ليوسف، فيكشف الله أنّه يدخل في صميم عائلته، بشخص الإله الإبن، يسوع "الله الّذي يخلّص شعبه من خطاياهم"، والّذي هو "عمّانوئيل، الله معنا" (متى 1: 21 و23). ويكشف له دوره كزوج شرعيّ لمريم، وأب ليسوع بالتّبني. وهما الكنزان الموكولان إلى عنايته. هكذا فعل في النّاصرة أوّلًا، ثمّ في بيت لحم، ففي الهرب إلى مصر من وجه هيرودس وأخيرًا في النّاصرة التي استوطنها. فأضحى يسوع إبن الله معروفًا في التّاريخ "بيسوع النّاصريّ، إبن يوسف ومريم".

ما أجمل أن يهتدي كلّ شخص إلى معرفة دوره في تدبير الله الخلاصيّ!

4. أصدر قداسة البابا فرنسيس منذ خمسة أيّام، في 8 كانون الأوّل الجاري، عيد الحبل بلا دنس، رسالة رسوليّة لمناسبة الذّكرى المئة والخمسين لإعلان القدّيس يوسف شفيعًا للكنيسة الكاثوليكيّة على يد الطّوباويّ البابا بيوس التّاسع في 8 كانون الأول 1870. عنوان رسالة البابا فرنسيس "بقلب أبويّ". يذكّرنا فيها بالألقاب التّشفعيّة التي خُصّ بها القدّيس يوسف. فالمكرّم البابا بيوس الثّاني عشر أعلنه "شفيع العمّال"، والقدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أعلنه "حارس الفادي"، والتّقوى الشّعبيّة اعتبرته "شفيع الميتة الصّالحة"، والكنيسة استشفعته "حاميًا للبؤساء والمعوذين والمتألّمين". أمّا القدّيس البابا يوحنّا الثّالث والعشرون فطلب أن يُذكر اسمه بعد اسم السيّدة العذراء في ليتورجيا القدّاس الإلهيّ وفي سائر الأسرار والرّتب البيعيّة.

5.توسّع قداسة البابا فرنسيس في أبوّة القدّيس يوسف بسبعة أوصاف داعيًا للتّشفّع إليه، وللاقتداء بفضائل أبوّته.

1) إنّه أب محبوب إليه يلجأ المؤمنون في مختلف حاجاتهم، بفضل ثقتهم به، وكبير حظوته لدى ابنه يسوع.

2) وأب مملوء حنانًا، فيه رأى يسوع حنان الله، فيما "كان ينمو تحت نظره بالقامة والنّعمة والحكمة أمام الله والنّاس" (لو 2: 52). ورأى يسوع حنان يوسف في كلّ همومه العائليّة، وفي صموده في الإيمان والرّجاء.

3) وأب مطيع لإرادة الله في أحلام ثلاثة: الأوّل، لاتّخاذ مريم امرأته؛ الثّاني، للهرب إلى مصر مع مريم وطفلها؛ الثّالث، للعودة بعد موت هيرودس. إيمان محبٌّ واضح لا يحتاج إلى استفسار أو سؤال. إيمان يطيع وينفّذ.

4) وأب يستقبل إرادة الله بروح المسؤوليّة، وبنبل القلب، ويتصالح مع تاريخ حياته الخاصّ.

5) وأب شجاع خلّاق لا يستسلم للصّعوبات، ولا يتوقّف أمام الحواجز، بل بروح خلّاق وشجاع يستنبط الوسائل لمتابعة السّير في مسؤوليّاته.

6) وأب عامل علاقته مع العمل تميّز حياته. فهو ذاك النّجّار المعروف في النّاصرة، حتّى أصبح نعتًا له.

7) وأب في الظّلّ، فكان ليسوع ظلّ الآب السّماويّ على الأرض وهذه رسالة كلّ أبوّة في العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة، على ما قال الرّبّ يسوع: "لا تدعوا أحدًا أبًا على الأرض، فإنّ لكم أبًا واحدًا في السّماء" (متّى 23: 9).

6. على ضوء كلّ هذه الأنوار السّماويّة التي تأتينا من البشارات الثلاث وبخاصّة من البشارة ليوسف، ندعو إخواننا اللّبنانيّين إلى التّروّي، وإلى فتح نافذة تخرقها أنوار السّماء ونحن على عتبة الاحتفال بميلاد إبن الله منذ الأزل، إبنًا للإنسان، ليكون "عمّانوئيل"-الله معنا. فنأمل ألّا تعطّل ردود الفعل الأخيرة السّياسيّة والطّائفيّة والقانونيّة مسار التّحقيق في انفجار المرفأ، من دون أن ننسى أنّه هدم نصف العاصمة وأوقع مئتي قتيلًا وخمسة آلاف جريحًا وآلاف المنكوبين الهائمين من دون منازل، ما جعل دول العالم تسارع إلى نجدة المنكوبين، فيما الدّولة عندنا وأصحاب السّلطة والسّياسيّون لم يحرّكوا ساكنًا. ونأمل أيضًا ألّا تَخلق ردود الفعل انقسامًا وطنيًّا على أساسٍ طائفيٍّ لا نجد له مبرِّرًا، خصوصا وأنّنا جميعًا حريصون على موقعِ رئاسةِ الحكومة وسائرِ المواقع الدّستوريّةِ والوطنيّة والدّينيّة. ونؤمن بأنَّ الحِرصَ على هذه المواقع لا يُفترضُ أن يَتعارضَ مع سيرِ العدالة، لا بل إنَّ مناعةَ هذه المواقع هي من مناعةِ القضاء. فالقضاء يحميهم جميعًا فيما هم خاضعون ككلّ مواطن عاديّ. "فالعدالة هي أساس الملك"، ولذا نحن لا نغطّي أحدًا. ولا نتدخّل في شأن أيّ تحقيق قضائيّ. هَـمُّنا حقّ الشعب. جميعُ النّاس، وأوّلهم المسؤولون هم، تحتَ سقفِ العدالةِ والمحاكمَ المختصّة. أمّا هيبةُ المؤسّساتِ وما تُمثّلُ فيجب أن تكونَ قوّةً للقضاء. وأصلًا، لا يوجد أيّ تناقض بين احترامِ المقاماتِ الدّستوريّةَ والميثاقيّة التي نَحرِصُ عليها وبين عملِ القضاءِ، خصوصًا وإنَّ تحقيقَ العدالةِ هو ما يصونُ كل المقاماتِ والمرجعيّات.

7. بقدر ما رحّبنا بقرارِ الدولةِ التّصدّي للفساد، أَقلقَتْنا طريقةُ مكافحةِ هذا الفساد، إذ بَدت كأنّها صراعٌ بين مؤسّساتِ الدولةِ وسلطاتِها ومواقِعها على حساب الشّفافيّةِ والنّزاهة، وعلى حساب دورِ القضاء وصلاحيّاتِه. قضاءُ لبنان منارةُ العدالة، فارفعوا أياديَكم عنه أيّها السّياسيّون والطّائفيّون والمذهبيّون ليتمَكّنَ هو من تَشذيبِ نفسِه والاحتفاظِ بالقضاةِ الشّرفاء والشُجعان فقط، الّذين يرفضون العدالةَ الكيديّةَ والمنتقاة والانتقاميّةَ أو العدالة ذات الغُرفِ السّوداء. المعنيّة بتدبيجِ مَلفّاتٍ وتمريرِها إلى هذا وهذه وذاك. كرامةُ الناس، أكانوا من العامّةِ أو من المسؤولين، ليست مُلكَ السلطةِ والإعلامِ وبعضِ القضاة.

8. ولا نريد أن تُخلط الأمور فتشكيل حكومة انقاذيّة تنهض بالبلاد من كلّ جانب يبقى واجبًا ملحًّا على رئيس الجمهوريّة والرّئيس المكلّف، والتحقيق العدليّ بشأن انفجار المرفأ يبقى أيضًا ملحًّا على القاضي المكلّف. فالمواطنون المخلصون ينتظرون هذين الأمرين الملحّين. فلا يحقّ لأحد التّمادي بمضيعة الوقت وقهر المواطنين. لقد حان وقت الحساب.

9. يا ربّ، بشفاعة القدّيس يوسف، علّمنا جميعًا روح المسؤوليّة النّابعة منك والدّاخلة في صميم تصميمك الخلاصيّ الشّامل، لكي نمارسها بالطّاعة لتعليمك، وبالتّفاني والتّجرّد في سبيل الخير العام. لك المجد والتّسبيح أيّها الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."