لبنان
29 كانون الثاني 2017, 09:11

الراعي: لا تُسنّ القوانين على قياس أشخاص وفئات، بل على قياس لبنان وشعبه

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأربعين لمثلّث الرحمة المطران ادمون فرحات في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي. وبعد الأنجيل، ألقى عظة بعنوان : "لو عرفتِ عطيّة الله!" ( يو 4:10)جاء فيها:

 

1. بنتيجة هذا "الحوار في المحبة"، الذي أجراه الربّ يسوع بصبر وتفهّم وطول بال مع المرأة السامريّة، تمكّنت هذه المرأة الضائعة من "معرفة عطيّة الله" والإقرار بأنّ يسوع المتكلّم معها "نبيّ" (يو4: 19)، "وأنه المسيح الآتي" (يو4: 26). وراحت تخبر عنه بإيمان واثق أهل السامرة، وتدعوهم للمجيء إلى رؤيته. فأتوا وآمن منهم كثيرون. وعرفوا بدورهم "عطيّة الله" وأعلنوا أنّه "بالحقيقة مخلّص العالم" (يو4: 42). وهكذا تحقّقت بكاملها كلمة الربّ يسوع لها: "لو عرفتِ عطيّة الله، ومَن القائل لكِ: أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه، فأعطاكِ ماء حيًّا... فالماء الذي أعطيه أنا يصير في مَن يشرب منه نبع ماء يتفجّر حياة  أبدية" (يو4: 10 و14).

 

2. نجتمع اليوم مع سيادة السفير البابوي وإخواننا السّادة المطارنة والآباء ومعكم جميعًا لإحياء ذكرى الأربعين لوفاة المثلَّث الرحمة المطران ادمون فرحات،السفير البابوي. فنقدّم هذه الذبيحة المقدّسة لراحة نفسه الطاهرة في مجد السماء. ويشارك معنا فيها من أهله شقيقه العميد الدكتور ريمون وعائلته وشقيقته جوزفين، وعائلات المرحومِين شقيقَيه الياس وحارس وشقيقتَيه زهيّه وماتيلدا. وقد حضر من روما أبن شقيقه الصيدلي يوسف وزوجته باميلا. كما يشارك أيضًا أنسباء وأصدقاء من عين كفاع وبلاد جبيل وبيروت. نجدّد لهم تعازينا الحارّة، ملتمسين من الله أن يُشركه في المشاهدة السعيدة، "ويعطي الكنيسة رعاة مثل قلبه" (إرميا3: 15).

 

3. في ضوء إنجيل اليوم، عرف المطران ادمون فرحات "عطيّة الله"، مذ أعطاه الله نعمة الوجود، وميّزه بالدعوة إلى شرف خدمته وخدمة الكنيسة في الكهنوت والأسقفيّة. فأدّاها كاملة بفضل عطيّة الإيمان والروح القدس ونعمة الأسرار المقدّسة، حتى أصبحت عنده هذه العطية نبع ماء تفجّر حياة أبديّة قدّسته، وقدّست الذين بلغتهم خدمته الكهنوتيّة والأسقفيّة بكل أشكالها: بالعمل والكرازة والتقديس والإدارة والديبلوماسية والتعليم والكتابة.

 

4. "عطيّة الله" التي تكلّم عنها الربّ يسوع في حواره مع المرأة السامريّة هي "الروح القدس" المشبَّه بالماء الحيّ الذي يصبح فينا نبعًا داخليًّا يتفجّر حياة أبدية". فالروح هو قوّة الله المحيية بالإيمان. وسيعيد يسوع كلامه للسامريّة بشكل رسمي وجهاري في الهيكل يوم العيد: "إن عطش أحدٌ، فليأتِ إليَّ ويشرب. ومَن آمن بي، تفيض منه أنهار ماء حيّ". وأضاف يوحنا في الإنجيل: "وعنى الربّ بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون" (يو7: 37-39). والروح هو التعليم المحييالذي أتى به المسيح، الحكمة المتجسّدة، فمَن يقبله ويؤمن به يعمل الأعمال التي يعملها هو" (يو14: 12). "والماء الحيّ" يرمز إلى السعادة اللامتناهية التي سيتمتّع بها المختارون الذين يقودهم الحمل إلى ينابيع ماء الحياة، كما نقرأ في رؤيا يوحنا (رؤيا7: 17).

 

5. أمّا مصدر الماء الحيّ فهو يسوع نفسه الذي عندما طعنه الجندي برمح وهو ميت فوق الصليب، "جرى من صدره دم وماء" (يو19: 34). لقد أخرج الفادي الإلهي من جهة قلبه المياه القادرة أن تُروي الشعب في مسيرته نحو أرض الميعاد الحقيقيّة، أرض الخلاص النهائي في السماء، على ما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنتس: "كلُّهم أكلوا طعامًا روحيًّا واحدًا، وكلّهم كانوا يشربون شرابًا روحيًّا واحدًا من صخرة روحيّة هي المسيح" (1كور10: 3).

 

هذا العمق اللاهوتي كلّه شكّل مضمون "حوار الحقيقة في المحبة" مع المرأة السامرية.

 

6. من المسيح الصخرة الروحيّة شرب المطران إدمون الماء الحيّ الذي أروى مسيرة حياته فارتوى من الإيمان والصلاة وأنوار الروح القدس، طيلة مسيرته الروحيّة والتثقيفيّة نحو الكهنوت في إكليريكيّة غزير البطريركيّة أوّلًا، ثمّ في الجامعة الكاثوليكيّة بباريس، ففي الجامعة الحبريّة الأوربانيانا بروما متخصِّصًا، بعد الفلسفة واللاهوت، في الكتاب المقدّس والحقّ القانوني. وأتقن اللّغات الكتابيّة القديمة: السريانيّة والعبريّة واليونانيّة، ولغة الكنيسة الرسميّة اللاتينيّة، ومن اللّغات الحيّة الفرنسيّة والإيطاليّة والالمانيّة والانكليزيّة.

 

وجرى من عمق كيانه نبع ماء حيّ ظهر في مسلكه المستقيم، وتفانيه في الخدمة والعطاء، وفي القيم الإنسانيّة والاجتماعيّة والكنسيّة التي تحلّى بها. كلُّها ظهرت في عمله كمتطوّع في دورات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ثمّ كعضوٍ في مجمع عقيدة الإيمان، ومن بعدها لمدّة اثنتَين وعشرين سنة في الأمانة العامّة لسينودس الأساقفة في روما. وقد صدر له، وهو في أيامه الأخيرة في المستشفى، كتابٌ شيِّق عن مراحل هذه المؤسّسة الكنسيّة، بعنوان: "مسيرتي مع سينودس الأساقفة: ذكريات واعتبارات". “ I Papi quando pregano”

 

7. وازداد ارتواؤه من الماء الحيّ، عندما بمسحة الروح القدس، أصبح أسقفًا سفيرًا بابويًّا، في عهد القديس البابا يوحنا بولس الثاني، وقداسة البابا بندكتوس السادس عشر، متنقِّلًا بين ثمانية بلدان من أفريقيا الشماليّة وأوروبا وآسيا. فكان يمثِّل قداسة البابا والكرسي الرسولي لدى سلطاتها ولدى الكنائس المحليّة. وبهذه الصفة بذل جهودًا حثيثة من أجل تعزيز السلام والترقّي والتعاون بين الشعوب؛ وشدّد أواصر العلاقات مع الأساقفة المحلّيّين؛ وساهم معهم في إنماء العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأخرى، وبينها وبين سائر الأديان؛ ودافع لدى رؤساء الدول عن رسالة الكنيسة والكرسي الرسولي (راجع مجلة الحقّ القانوني، ق36 و364). وبسبب قربه من حياة البابوات ووقوفه على حياة الصلاة عندهم، وضع كتابًا باللغة الإيطالية: "البابوات، عندما يصلّون".

 

8. في سبيل هذه الرسالة الشريفة وضع المطران ادمون كنوز علمه وخبرته وقلبه، معتمدًا "حوار الحقيقة في المحبة" الذي تعلّمه من الإنجيل ومن نهج الكنيسة، ووضع كتابًا بهذا الموضوع عنوانه "الديبلوماسيّة الفاتيكانيّة"، وقد صحّحه وهو في المستشفى قبيل وفاته، ويوجد حاليًّا تحت الطبع. وسبقه كتاب بالعربية، عنوانه: "الفاتيكان في معانيه ومبانيه" في طبعتَين متتاليتَين. هذا فضلًا عن كتاب وثائقي آخر باللغة الإيطاليّة عنوانه "أورشليم" “Gerusalemme”ويتضمّن الوثائق البابوية المختصّة بقضية الأراضي المقدّسة، والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، والقدس كمدينة مفتوحة للأديان الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، خاضعة لنظام دولي.

 

ولم يترك مناسبة كنسيّة أو لبنانيّة أو مشرقيّة إلّا وكتب مقالات بشأنها في جريدة "الأوسرفاتوري رومانو الفاتيكانية"، وسواها. في كلّ ذلك، كان يتفجّر من قلبه وعقله "نبع الماء الحيّ".

 

9. "حوار الحقيقة في المحبة". هذا هو نهج الكنيسة، وينبغي أن يكون نهج المسيحيّين بنوع خاصّ. ونرجو أن يكون النهج اللبناني الذي تعتمده المؤسّسات الدستورية. ففي خدمة الخير العام، وحده "حوار الحقيقة في المحبة" يضع هذه المؤسّسات في مسارها الطبيعي، بعيدًا عن الاستغلال الشخصي أو الفئوي أو المذهبي، وعن فرض الرأي بالقوّة أو بالمقاطعة أو بالتعطيل. فلو ساد مثل هذا الحوار منذ سنة 2005 لكان لنا قانون انتخابات نيابيّة جديد منذ سنوات. ولو يسود مثل هذا الحوار اليوم، ونحن أمام الاستحقاق الدستوري لإجراء الانتخابات، لَتحمّل النوّاب مسؤوليّتهم الدستورية والوطنية، وجنّبوا المجلس النيابي مغبّة انذار فخامة رئيس الجمهورية باللاأين: "لا لقانون الستين ولا للتمديد". مرّة أخرى نقول لهم: لا تُسنّ القوانين على قياس أشخاص وفئات، بل على قياس لبنان وشعبه. فجنِّبوا البلاد أزمة جديدة، فيما الداخل يتآكله الفساد والفقر والحرمان، ويهتزّ فيه الأمن والاستقرار؛ وفيما الخارج المجاور في غليان الحرب والتهجير والقتل والدمار. وندعو المسؤولين المدنيِّين عندنا إلى "معرفة عطيّة الله" التي هي وطننا اللبناني المميَّز، الذي تحميه يد سيّدة لبنان الخفيّة، والذي من حقّه على كلّ واحد وواحدة منّا أن يحافظ عليه، لكي يواصل الرسالة. وقد أوكلتها إليه العناية الإلهيّة لخدمة هذا المشرق وقضيّة العيش الواحد بين الأديان والثقافات والحضارات.

 

من خلال هذا الالتزام نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.