لبنان
14 تشرين الثاني 2022, 06:00

الرّاعي: لا نجد حلًا إلّا بالدّعوة إلى عقد مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد بشارة زكريّا، التمس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة الرّاعي رحمة الله الواسعة من أجل لبنان وشعبه، خلال قدّاس إلهيّ ترأّسه في بكركي، ألقى خلاله عظة قال فيها:

"1. أثناء احتفال ليتورجيّ في الهيكل، المعروف ببيت الله، وكان زكريّا الكاهن يقدّم فيه البخور، تراءى له ملاك الرّبّ واقفًا من عن يمين مذبح البخور. وبلّغه البشارة بأنّ امرأته أليصابات ستلد له ابنًا، على الرّغم من أنّه "هو شيخ وهي متقدّمة في سنيّها" (الآية 18). ذلك أنّ الله استجاب صلاته، لكونه مع امرأته "بارّين أمام الله، وسائرين بجميع وصاياه، وببرّ الرّبّ بدون لوم" (الآية 6).  

اللّيتورجيا هي المكان والجوّ الّذي يتمّ فيه اللّقاء بين الله وكلّ مؤمن ومؤمنة، والّذي يكشف الله له ولها عن مقاصده. شرط أن يكون كلّ واحدٍ سائرًا بموجب وصايا الله ورسومه ومصلّيًا.

2. يسعدنا أن نبدأ معكم زمن الميلاد مع أحد البشارة لزكريّا بمولد إبن سيدعوه "يوحنّا" أيّ الله رحوم. فكان يوحنّا بمثابة الفجر أمام طلوع شمس الرّحمة يسوع المسيح. ويطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا ونحن نحتفل مع الرّابطة المارونيّة بالذّكرى السّبعين لتأسيسها. فنحيّي رئيسها السّفير الدّكتور خليل كرم ومجلسها التّنفيذيّ وجميع أعضائها. ونقدّم هذه اللّيتورجيا الإلهيّة ذبيحة شكر لله على السّبعين سنة من عمرها، وعلى ما حقّقت من خير في إطار أهدافها المرسومة في نظامها. نصلّي من أجل نموّها وفيض الخير والنّعم الإلهيّة على أعضائها وعائلاتهم. ونذكر موتى الرّابطة راجين لهم المشاهدة السّعيدة في مجد السّماء، لقاء أعمالهم الصّالحة وأتعابهم.

3. ثلاث بشارات رسمت حدود تاريخ الخلاص: البشارة لإبراهيم بمولد اسحق (تك 17/ 15-22) الّذي من صلبه يولد أسباط شعب الله الإثنا عشر، وهؤلاء من خلالهم تسير كلمة الله الواعدة بالخلاص إلى تحقيقها. البشارة لزكريّا بمولد يوحنّا المعمدان الّذي يختتم مسيرة شعب الله، كآخر نبيّ منه، ويفتتح، كالفجر قبل انبلاج الصّباح، مسيرة شعب الله الجديد، وهو فيه أوّل رسول. البشارة لمريم بمولد المسيح الفادي، الّذي يبلغ معه ملء الزّمن، ويبدأ شعب الله الجديد الّذي هو الكنيسة، منفتحًا نحو نهاية الأزمنة.

4. في الاحتفال اللّيتورجيّ يتمّ اللّقاء بين الله والإنسان. "ففيما كان زكريّا الكاهن يقوم برتبة البخور في الهيكل، تراءى له ملاك الرّبّ عن يمين مذبح البخور" (لو 1/ 10). اللّيتورجيا هي الوسيلة الّتي فيها يتمّ لقاء الله بالإنسان، ويتحقّق الخلاص بالمسيح الّذي هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر (1 تيم 2/ 5): فهو يعلن البشرى ويشفي القلوب المنسحقة (أشعيا 61/ 1؛ لو 4/ 18)، كطبيب للأجساد والأرواح (القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ).  

اللّيتورجيا هي فعل العبادة لله، الحاضر هنا بيننا ومعنا: يكلّمنا عندما نقرأ كتبه المقدّسة؛ يلهمنا بأنوار روحه القدّوس، يخاطب قلوبنا عندما نصغي إليه بتأمّل وصمت. في هذا الجوّ كلّم الله زكريّا بواسطة جبرائيل الملاك. لا يستطيع إنسان أن يلتقي الله في العقل والقلب إلّا بواسطة أفعال العبادة، المعروفة باللّيتورجيا. فالله حاضر في الجماعة المصلّية، على ما قال الرّبّ يسوع: "حيث يجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي، أكون هناك بينهم (متّى 18/ 20) (أنظر الدّستور المجمعيّ في اللّيتورجيا).

5. لا يمكن، لصاحب مسؤوليّة في العائلة أو الكنيسة، وفي المجتمع أو الدّولة، أن يقوم بمسؤوليّته بشكلٍ بنّاء من دون أن يشارك في الاحتفال اللّيتورجيّ في يوم الرّبّ، بحيث يصغي إلى ما يكشف له الله عن إرادته وتصميمه، عبر سماع كلامه، والإصغاء إليه، والإجابة بصلاته. هذه هي الضّمانة لكي يأتي عمل المسؤول مجبولًا بالحبّ والعدالة والحقيقة والإنصاف، ومتوخّيًا الخير العامّ الّذي منه خير كلّ شخص وخير الجميع. إذا غاب ذلك تفشّى الفساد بالأكثر، وتفاقمت الأزمات السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، على يد المسؤولين ومتعاطي الشّأن السّياسيّ. كما هو حاصل عندنا، وبكل أسف!

6. من نتائج هذا الواقع أنّه كلّما وصلنا إلى استحقاقِ انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة ، يَبدأ اختراعُ البِدعِ والفَذْلكاتِ للتّحكّمِ بمسارِ العمليّةِ الانتخابيّةِ ونتائجِها على حسابِ المسارِ الدّيمقراطيّ. علمًا أنَّ الدّستورَ واضحٌ بنصّه وروحه بشأن موعدِ الانتخابِ، ونِصابِ انعقادِ الجلساتِ ودوراتِها الأولى والتّالية، ونصابِ الانتخاب.

ويتكلّمون عن رئيس توافقيّ. الفكرة مرحّب بها في المبدأ، شرط أن لا تكون حقًّا يُراد به باطل، وشرط أن يتمّ اختيار رئيسٍ حرٍّ يلتزم بقَسَمِه والدّستور؛ ويكون قادرًا على وقفِ النّزاعات وإجراءِ المصالحاتِ، وشدّ أواصر الوحدة الدّاخليّة.

الرّئيسُ التّوافقيّ بمفهومنا هو صاحبُ موقفٍ صلبٍ من القضايا الأساسيّة، وصاحبُ خِياراتٍ سياديّةٍ لا يُساوم عليها أمامَ الأقوياءِ والمستقوِيّين، ولا أمام الضّعفاء والمستَضعفين، لا في الدّاخلِ ولا في الخارج.  

الرّئيسُ التّوافقيّ هو الّذي يحترمُ الدّستور ويُطبّقه ويدافعُ عنه، ويظلُّ فوقَ الانتماءاتِ الفئويّةِ والحزبيّة، وهي تَلْتفُّ حولَه وتؤيّدُه ويكون مرجِعيّتَها وتَطمَئنُّ إلى رعايتِه.  

ليس الرّئيسُ التّوافقيّ رئيسًا ضعيفًا يُدير الأزمةَ، يداوي الدّاءَ بالدّاء، ويداري العاملين ضّدَّ مصلحةِ لبنان. ولا رئيسًا يَبتعد عن فتحِ الملفّاتِ الشّائكة الّتي هي السّببُ الأساسُ للواقعِ الشّاذّ السّائد في كلّ البلاد. ولا رئيس تحدٍّ يَفرِضُه فريقُه على الآخرين تحت ستارِ التّفاوضِ والحوارِ والتّسوياتِ والمساوماتِ، أو يأتون ببديلٍ يَتَّبِعُ سياسةَ الأصيلِ نفسِها. فيَتلاعبون به كخِفِّ الرّيشةِ ويُسيطرون على صلاحيّاتِه ومواقفِه ويُخرجونه عن ثوابتِ لبنان التّاريخيّةِ ويَدفعونه إلى رميِ لبنانَ في لهيب المحاور.  

7. الرّئيس الّذي نريده هو رئيس على مقياس لبنان واللّبنانيّين، يَرفع صوتَه في وجهِ المخالفين والفاسدين ومتعدّدي الولاءات انطلاقًا من موقِعه المترفِّع عن كلّ الأطراف؛ والّذي يقول للعابثين بمصير البلاد: كُفّوا إساءاتِكم إلى لبنان، وكُفّوا عن تعذيبِ اللّبنانيّين، وكُفّوا عن المضِيِّ في مشاريعَ مكتوبٍ لها السّقوطُ الحتميُّ آجِلًا أو عاجلًا لأنّها ضِدَّ منطقِ التّاريخ، وضِدَّ منطقِ لبنان.  

الرّئيس الّذي نريده هو الّذي يَتحدى كلَّ من يَتحدّى اللّبنانيّين ولبنان، والّذي يقضي على المساعي الخفيّة والظّاهرة إلى تغيير هُويّةِ لبنان الوطنيّةِ والتّاريخيّة. مهما كان شكلُ لبنان الجديدِ مركزيًّا أو لامركزيًّا، فلن نَسمحَ بالقضاءِ على خصوصيّتِه وهُويّتِه وعلى تعدّديّتِه، وعلى كلِّ ما يُمثّل في هذا الشّرق من وطن شَكّلً ملاذًا وطنيًّا آمنًا للمسيحيّين كما لسواهم كي يعيشوا بإخاءٍ ورِضى ومساواةٍ، وشراكةٍ فيما بينهم في دولةٍ ديمقراطيّةٍ حضاريّةٍ. فمن أجل هذه الأهدافِ السّاميةِ نَشأ لبنان سنة 1920 وهكذا سيبقى.  

فلا يمكن التّنكّر لكلِّ تضحياتِنا من أجل لبنان وكلِّ اللّبنانيّين، وللشّهداء الّذين سقطوا دفاعًا عن هذا النّموذج الحضاريّ وإنقاذًا للشّراكةِ الوطنيّة. هذه خصوصيّةٌ ثابتةٌ مدى الدّهور. وبقْدرِ ما نحن حاضرون للنّضالِ والكفاحِ لمنعِ تغييرِ وجه لبنان بقيمه وبخصوصيّته، فإنّا مُستعدّون أكثرَ فأكثر للتّفاوضِ والحوارِ حولَ تطويرِ لبنان في إطارِ الحداثةِ والعدالةِ والحِيادِ واللّامركزيّةِ الموسَّعة ومقترحاتٍ أخرى...

إنّ الرّئيس التّوافقيّ المنشود لا يمكن اختياره إلّا بالاقتراعات اليوميّة المتتالية والمشاورات بين سائر الكتل النّيابيّة.

8. أمام فشل مجلس النّوّاب الذّريع في انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، بحيث كانت الجلسات الخمس بمثابة مسرحيّة- هزليّة أطاحت بكرامة الّذين لا يريدون انتخاب رئيس للبلاد، ويعتبرون أنّه غير ضروريّ للدّولة، ويحطّون من قيمة الرّئيس المسيحيّ- المارونيّ، بالإضافة إلى فشل كلّ الحوارات الدّاخليّة أو بالأحرى تفشيلها من سنة 2006 حتّى مؤتمر إعلان بعبدا سنة 2012، لا نجد حلًّا إلّا بالدّعوة إلى عقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ خاصٍّ بلبنان يُعيد تجديدَ ضمانِ الوجودِ اللّبنانيّ المستقِلّ والكيانِ والنّظامِ الدّيمقراطيِّ وسيطرةِ الدّولةِ وحدَها على أراضيها استنادًا إلى دستورِها أوّلًا ثمّ إلى مجموعِ القراراتِ الدّوليّةِ الصّادرةِ بشأنِ لبنان. فإنّ أيّ تأخيرٍ في اعتمادِ هذا الحلّ الدُّستوريّ والدُّوليّ من شأنه أن يُورّط لبنانَ في أخطارِ غير سلميّةٍ ولا أحد يستطيع احتواءَها في هذه الظّروف.

إنّ الأممَ المتّحدة معنيّةٌ مع كلِّ دولةٍ تعتبر نفسَها صديقةَ لبنان أن تتحرّكَ لعقدِ هذا المؤتمر. ولقد رأينا أنَّ هذه الدّول حين تريد تحقيقَ شيءٍ تحقّقه فورًا مهما كانت العقباتُ، ولنا في سرعةِ الوصولِ إلى اتّفاقٍ لبنانيّ/ إسرائيليّ برعاية أميركيّة حول ترسيم الحدودِ البحريّة والطّاقة، خير دليلٍ على قدرةِ هذه الدّول إذا حسمت أمرها.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،  

9. إنّ البشارة لزكريّا بمولد يوحنّا تذكّرنا أنّ رحمة الله فاعلة في التّاريخ. فنصلّي كي تشملنا ووطننا لبنان، وتخرجنا من مآسينا. فالله سميع مجيب، له المجد إلى الأبد، آمين".