لبنان
04 تشرين الأول 2021, 05:00

الرّاعي: لا نستطيع الإصرار على التّحقيق في جريمة المرفأ ونمتنع عن الدّفاع عن المحقّق العدليّ

تيلي لوميار/ نورسات
في قدّاسه الأخير قبل العودة إلى بكركي، رفع البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الصّلاة من أجل خلاص لبنان ونهوضه ممّا يعاني من أزمات سياسيّة واقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة، في قدّاس إلهيّ ترأّسه في كنيسة الكرسيّ البطريركيّ في الدّيمان.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة تحت عنوان "حيث تكون الجثّة، هناك تجتمع النّسور" (مّتى 24/ 28)، وقال:

"1. في معرض حديث الرّبّ يسوع عن مجيئه الثّاني في المجد، مع ما يرافقه من علامات تفكّك للنّظام الفلكيّ ونهاية العالم، وما يسبقه من تضليل للعقول والضّمائر، يشبّه المؤمنين بالنّسور الّتي تجتمع حوله، مثلما "تجتمع النّسور حول الجثّة"" (متّى 24: 28).

كتب القدّيس إيرونيموس: "إن كانت هذه المخلوقات غير العاقلة قادرة على اكتشاف الأجسام الصّغيرة، وتفصلها عنها مسافات شاسعة من يابسة وبحر، فكم بالحريّ ينبغي لنا نحن المؤمنين أن نعرف المسيح الّذي يأتي بهاؤه من المشرق ويسطع في المغرب".

إنّ القدّيسين هم كالنّسور حلّقوا في الفضاء مبتعدين عن عراقيل الدّنيا، فرأوا المسيح كنزهم الأثمن وتجمّعوا حوله بحياة بارّة، ساطعة. إنّنا نلتمس شفاعتهم لكي نكتشف مثلهم الكنز الخفيّ الحيّ، يسوع المسيح، الّذي وحده يعطي معنى للحياة بكلّ أبعادها.

2. في هذا الأحد الأوّل من تشرين الأوّل نختتم قدّاساتنا في الكرسيّ البطريركيّ في الدّيمان، لنعود فنستأنفها من كنيسة الصّرح البطريركيّ في بكركي. فإنّي أحيّي كلّ أحبّائنا أبناء الأبرشيّة البطريركيّة في نيابتي جبّة بشرّي وإهدن- زغرتا، إكليروسًا وعلمانيّين برعاية سيادة أخينا المطران جوزف نفّاع نائبنا البطريركيّ العامّ في هاتين النّيابتين.

إنّا نحيّيكم، أيّها الحاضرون، وبخاصّة قدس الأباتي فادي بو شبل إكسرخوس كولومبيا والبيرو والإكوادور، والكاهن الجديد في هذه الإكسرخوسيّة الخوري كريم جرجس الّذي سيم كاهنًا أوّل من أمس، إنّنا نهنئه ونحيّي أهله الكرام الحاضرين معنا.

نصلّي معًا من أجل خلاص لبنان ونهوضه ممّا يعاني من أزمات سياسيّة واقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة، ومن أجل إنهاء الحالة الشّاذّة الّتي يعيش فيها كدولة تحتاج إلى وحدة القرار والمؤسّسات والقوى المسلّحة.

3. يحيي مجلس كنائس الشّرق الأوسط اليوم صلاة ختام أيّام "موسم الخليقة" الّتي بدأت في أوّل أيلول الماضي وتنتهي اليوم الثّالث من تشرين الأوّل، بموضوع: "بيت لنا جميعًا؟ تجديد بيت الرّبّ". يجري الاحتفال الرّسميّ السّاعة الخامسة مساء في دير سيّدة الزّيارة- معهد وجمعيّة فيلوكاليا في عينطورة كسروان. وتنقله وسائل الاتّصال الاجتماعيّ. أيّام "موسم الخليقة" دعوة لكلّ واحد وواحدة منّا لاحترام الطّبيعة والبيئة، بيتنا المشترك الّذي أراده الله للبشر أجمعين. فبمقدار ما نحافظ عليه، نحافظ على صحّتنا وصحّة أجيالنا، ونجسّد ثقافتنا، ونقدّم لشعبنا ثقافة التّرقّي والنّموّ الشّامل.  

4. يدعونا الرّبّ يسوع في كلام إنجيل اليوم للتّنبّه إلى المضلّلين الّذين يسميّهم مسحاء دجّالين وأنبياء كذبة يعملون على تضليل المؤمنين بالله وبالمسيح الفادي ومخلّص العالم وبكنيسته المؤتمنة على وديعة الإيمان والتّعليم، وعلى نعمة الأسرار الخلاصيّة، وعلى المحبّة والوحدة. ويفعلون ذلك لمكاسب شخصيّة.

وينسحب هذا التّنبيه إلى المضلّلين على المستوى الوطنيّ بسياسات وممارسات منافية للدّستور وميثاق العيش المشترك والوحدة الدّاخليّة.

كلّ هؤلاء المضلّلين يعرقلون مسيرة المؤمنين نحو الله، والمواطنين نحو الولاء للوطن. ويتلاعبون بالضّمائر ويأسرونها، وينتزعون الحرّيّة الّتي يهبها الله لكلّ إنسان، بحسب قول الرّبّ يسوع: "لقد حرّركم الإبن لكي لا تُستعبدوا لأحد" (راجع يوحنّا 8: 36).  

5. إنّ مجيء الرّبّ يسوع الثّاني بالمجد في نهاية الأزمنة، ينير مجيئه اليوميّ في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة. إنّه عمّانوئيل- الله معنا (راجع متّى 1: 23)، رفيق دربنا، ينيرها بكلامه، ويقدّسنا بنعمته، ويجمعنا بروحه القدّوس، وفق شريعة المحبّة. ما يعني الرّبّ يسوع في هذا الخطاب عن نهاية العالم، هو اللّقاء به ديّانًا بعد أن جاء مخلّصًا وفاديًا؛ واللّقاء به يوميًّا، لكونه حاضرًا بشكل غير منظور بكلامه ونعمة أسراره ومحبّته، وبواسطة كنيسته أداة الخلاص الشّامل.

6. لبنان بحاجة إلى التّحرّر من المضلّلين والكذبة الّذين يستغلّون طيبة الشّعب بالكلام المعسول فيما هم يمعنون في الفساد، ونهب مال الدّولة، والتّفلّت من الضّرائب، فإذا بالدّولة تنهار والشّعب ينوء تحت ثقل الفقر.

فنقول إنّ المرحلة الحاليّة تستلزمُ من الحكومة الجديدة الصّراحةَ والإقدامِ في المواقفِ حيالَ جميعِ القضايا الّتي يَشكو منها الشّعب اللّبنانيّ، وأن توفّرَ الأسباب الوجيهةَ لكي تحوزَ على تأييدِ النّاس لها. لقد أيَّدنا جميعًا هذه الحكومةِ وتمنّينا لها النّجاح وما زلنا، ويبقى عليها أنْ تؤيدّ ذاتَها بأداءٍ رائدٍ وبإبرازِ قدرةِ وزرائِها على الاضْطِلاع بمهَامِهم.

لذا، ينغي عليها أن تتخطّى انتماءاتِ أعضائِها وتَعلوَ فوقَ الأحزابِ والطّوائف، وتَصُدَّ القوى الّتي تَسعى إلى الهيمنةِ على مسارِها وقراراتِها. فتتمكّن من إثارةِ القضيّةِ اللّبنانيّة في اتّصالاتِها العربيّةِ والدّوليّة، ومن طرحِ موضوعِ حيادِ لبنان الّذي يبقى الضّامنَ لنجاحِ جميعِ الحلول. وفي المقابل إنّ معالجةَ القضايا الحياتيّة مُلحّةٌ نظرًا لانتشار الفقر. وما يُضاعف الحاجةُ إلى معالجةِ القضايا الحياتيّة والاجتماعيّة أنَّ الإضراباتِ تَعمُّ غالِبيّةَ القطاعات والنّقابات طلبًا لزيادة الأجور.

7. الشّعب لم يعد يتحمّل تدويرَ الزّوايا بين الحقِّ والباطل، وبين السّيادةِ والإذعان، وبين القاتلِ والضّحيّة. أصدقاء لبنان العرب والدّوليّون ينتظرون التزامَ سياسةٍ واضحةٍ، وأداء مستقيم لكي يشاركوا في نهضتِه الاقتصاديّة والماليّة، بعيدًا عن الازدواجيّة الممقوتة.

فلا نستطيعُ أن ندّعيَ الحفاظَ على السّيادةِ وندع المعابرَ الحدوديّةَ مشرَّعة، والمواقفَ الغريبةَ المسيئةَ إلى السّيادةِ من دون ردٍّ.

لا نستطيعُ تأييدَ الشّرعيّةِ والقَبولَ بتعدّديّةِ السّلاحِ وازدراء المؤسّسات، وبإنشاءِ جيشٍ تابعٍ لدولةِ أجنبيّة على حدِّ اعترافِ أحد ِكبارِ المسؤولين في تلك الدّولة.

لا نستطيعُ الحديثَ عن تأمينِ العامِّ الدّراسيِّ، ولا نوفِّرُ للمدارس والجامعات المساعدات والظّروفَ المناسبةَ للانطلاق بشكل طبيعيّ.

لا نستطيعُ رفعَ شعارِ النّأيِ بالنفس ونَبقى منحازين إلى محاورَ إقليميّة تتنافى مع مصلحةِ لبنان.

لا نستطيعُ الوعدَ بمجيء المساعداتِ والاختلافَ على أرقامِ العجزِ وعلى كيفيّةِ التّفاوضِ مع صندوقِ النّقدِ الدّوليّ.

لا نَستطيعُ الإصرارَ على التّحقيقِ في جريمةِ المرفأ، ونَمتنعَ عن الدّفاعِ عن المحقّقِ العدليّ والقضاء.

8. صحيح أنّه لا يجوزُ للحكومةِ التّدخلُّ في شؤونِ القضاء، لكن واجبَها التّدخّلُ لوقفِ كل تدخّلِ في شؤونِ القضاء. إنَّ التّدخّلاتِ الّتي يَتعرّضُ لها المحقِّقُ العدليُّ من شأنِها أن تؤثّرَ على مواقفِ الدّولِ الصّديقةِ تجاه لبنان بالإضافةِ إلى أنّها تُضعِفُ هيبةَ القضاء عندنا. ونتوجّه إلى المرجِعيّاتِ القضائيّةِ لكي تَتحرّكَ بجرأةٍ، وتدافعَ عن ذاتِها والقضاة، وتَضعَ حدًّا للخِلافاتِ بين القضاة، وتُحصِّنَ الجسمَ القضائيّ ضدّ أيِّ تدخّلٍ سياسيٍّ أو حزبيٍّ أو ماليّ أو طائفيّ.

9. أمّا القوى السّياسيّة فعليها أن تخفّف من الاحتقانِ، وتلتقيَ في أُطرٍ وطنيّةٍ وديمقراطيّةٍ جِدّيّةِ وجامعةٍ وذاتَ صدقيّةٍ، وتتحاورَ في ما بينها مباشرةً لإنقاذِ لبنان. فالوطن يدعونا إلى توحيدِ الصّفوفِ والنّضالِ في سبيلِ استعادةِ السّيادةِ والاستقلال المخطوفَين. وما من نضالٍ لبنانيٍّ بلغَ هدفَه خارجَ وِحدةِ الموقف. وما من خَسارةٍ وَقعت إلّا بسببِ الانقسام والتّفرّدِ بالقرارِ والانجرارِ وراءَ المزايداتِ والشّعبويّةِ والأنانيّة.

10.فلنصلّ إلى الله كي يهبنا الحكمة والفطنة لحسن التّمييز، والسّير على هدي كلامه، كلام الحياة الأبديّة. له المجد والتّسبيح الآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين."