لبنان
25 آب 2025, 05:00

الرّاعي: لا يمكن للوطن أن ينهض إلّا إذا استعاد قيم الإيمان والرّجاء

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّاني عشر من زمن العنصرة، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في الدّيمان، ألقى خلاله عظة بعنوان"يا ابن داود، إرحمني: إبنتي بها شيطان يعذّبها جدًّا" (متّى 15: 22)، وتأمّل بإيمان المرأة الكنعانيّة، فقال:

"1.الرّبّ يسوع في نواحي صور وصيدا، حيث يعيش الكنعانيّون غير اليهود، وبالتّالي غير المؤمنين المعروفين بالأمم أو بالوثنيّين، في تلك المنطقة خرجت امرأة كنعانيّة من غير ملّة يسوع، لكنّها مؤمنة به، وراحت تصرخ وتناديه باسمه البيبليّ: "يا ابن داود" أيّ أيّها المسيح الآتي حاملًا الرّحمة، "يا ابن داود، إرحمني: إبنتي بها شيطان يعذّبها جدًّا" (متّى 15: 22). هذا الصّراخ سقط في قلب يسوع، لأنّه إيمان بيبليّ، وقد أراد امتحانه، من أجل إعلانه للجمع وللتّلاميذ الّذين كانوا يتوسّلون إليه "بصرفها لأنّها تصرخ في إثرهم" (متّى 15: 23).

2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا لنحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، الّتي يتمّ فيها لقاؤنا المباشر بالمسيح الفادي والمخلّص. ونرجو أن يتمّ هذا اللّقاء بإيمان مثل المرأة الكنعانيّة، فيكون لنا ما نبتغي من المسيح الرّبّ.

3. ثلاث محن امتحن بها الرّبّ يسوع إيمان المرأة.

المحنة الأولى، عدم اكتراثه وإهماله لصراخها، وكأنّه لم يسمعه. أمّا هي فازدادت صراخًا، حتّى انزعج منه تلاميذ يسوع.

المحنة الثّانية، جوابه للتّلاميذ بشيء من التّمييز العنصريّ، إذ أجاب: "لم أُرسل إلّا إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل" (متّى 15: 24). أمّا هي فأتت وسجدت له وقالت: "ساعدني يا ربّ".

المحنة الثّالثة، تحقير المرأة وإهانتها بقوله: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين، ويُلقى إلى جراء الكلاب". أمّا هي فأجابت بكلّ تواضع ومن دون أيّ امتعاض، بجواب لم يكن يتوقّعه: "نعم يا ربّ، وجراء الكلاب تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها." فما كان من الرّبّ إلّا أن امتدح إيمانها ونالت مبتغاها: "أيّتها المرأة، عظيم إيمانك، فليكن لكِ كما تريدين. ومن تلك السّاعة شفيت ابنتها".

4. ميزة إيمان المرأة أنّه أوّلًا ثقتها بيسوع. لقد آمنت به شخصيًّا بعلاقة وجدانيّة، إنّه بالنّسبة إليها "إبن داود"، "المسيح الآتي، وحامل الرّحمة". بهذا الإيمان نادت وألحّت عليه، بالرّغم من الإمتحانات الثّلاثة.

والميزة الثّانية، أنّه إيمان بما يقول ويفعل، إيمانها بأنّه سيلبّي طلبها ويرحم ابنتها، فهو حامل الرّحمة، ولا يستطيع أن ينكر ذاته.

5. هذا النّصّ الإنجيليّ ليس رواية عابرة، بل إعلان عن قوّة الإيمان المثابر. هو درس لاهوتيّ عميق يبيّن أنّ رحمة الله لا تحدّ بحدود قوميّة أو عرقيّة أو انتماءات ضيّقة، بل تتخطّى الجميع لتشمل كلّ من يأتي بقلب منسحق ورجاء صادق. والمرأة الّتي بدت ضعيفة صارت مثالًا للرّجاء الحيّ، والإيمان الصّامد.

نحن مدعوّون لعيش لقاء مماثل مع المسيح المخلّص والفادي، في سرّ الإفخارستيّا الّذي فيه يتمّ لقاؤنا بالله، لقاءً إيمانيًّا، ثابتًا في الرّجاء، صامدًا في المحبّة.

6. هذا الإيمان يدعونا لنكون مثل المرأة الكنعانيّة: مؤمنين مثابرين، غير مستسلمين. إنّه دعوة إلى كلّ مسؤول في الدّولة، إلى كلّ سياسيّ، إلى كلّ مواطن، ليدركوا أنّ الإيمان الحقيقيّ يُترجم في الأمانة، في الإصلاح، في التّمسّك بالوحدة الوطنيّة، وفي العمل لأجل الخير العامّ لا المصالح الضّيّقة، الوطن لا يُبنى بالصّراعات بل بالثّقة. لا ينهض بالوعود بل بالأفعال. لا يحيا بالشّعارات بل بالعدل والحقّ. وكما خرجت المرأة من حدودها الجغرافيّة، وصرخت بثقة، نحن أيضًا مدعوّون للخروج من حدود انقساماتنا ومخاوفنا، لنرفع صوتنا بوجه كلّ من يهدّد وجودنا وكياننا ورسالتنا.

يحتاج لبنان اليوم إلى إيمان حيّ يُترجم بالثّبات في الأرض، بالمحافظة على الكرامة الوطنيّة، بالدّفاع عن سيادته على كامل أرضه، وعن حرّيّته، وبإيجاد سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة تقي أبناءه من الهجرة، ومن بيع أراضيهم.

مسؤوليّة القيّمين على الشّأن العامّ كبيرة؛ فعليهم أن يتخطّوا منطق المصالح الشّخصيّة، وأن ينفتحوا على الخير العامّ، ويضعوا خدمة الشّعب قبل خدمة الذّات. وعلى السّياسيّين الإصغاء إلى صرخة الشّعب المقهور، ووضع يدهم بيد الآخرين من أجل قيام دولة السّيادة الكاملة والعدالة والقانون.

ولا يمكن للوطن أن ينهض من أزماته، إلّا إذا استعاد قيم الإيمان والرّجاء، وإذا اجتمع أبناؤه حول مشروع وطنيّ جامع، لا حول مصالح ضيّقة وانقسامات قاتلة.

7. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، كي يمنحنا الله نعمة الإيمان المثابر؛ وكي يفتح قلوبنا على الرّجاء، ويشفينا جميعًا من جراح الماضي والحاضر، ويساعدنا على تنقية الذّاكرة. فنرفع المجد والشّكر للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين."