لبنان
27 تشرين الأول 2025, 06:55

الرّاعي: لبنان هو وديعة الله والدّينونة ستأتي على قدر أمانتنا لهذه الوديعة

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الأخير من زمن الصّليب، وفي عيد المسيح الملك، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي بالقدّاس الإلهيّ في بكركي.

في عظته، تناول الرّاعي إنجيل متّى 25 حول الدّينونة العامّة، فألقى عظته بعنوان: "كنت جائعًا فأطعمتموني" (متّى 25: 35)، وقال:

"1.تختتم الكنيسة في هذا الأحد والأسبوع الطّالع زمن الصّليب، وهو زمن النّهايات ومجيء المسيح الثّاني بالمجد ليدين كلّ إنسان على المحبّة لله ولكلّ محتاج: للجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسّجين، بالمفهوم المادّيّ والرّوحيّ والمعنويّ. وتحتفل الكنيسة في هذا الأحد الأخير من زمن الصّليب بعيد المسيح الملك، الّذي يظهر في آخر الأزمنة ببهاء مجده.

2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، للاحتفال معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، مع ترحيب خاصّ بعائلة نسيبنا المرحوم المهندس كابي منعم الرّاعي، الّذي ودّعناه بالأسى الشّديد في الرّابع من شهر أيلول الماضي مع زوجته نسيبتنا فيوليت، وبناته الثّلاث وعائلاتهنّ، ومع والديه وشقيقيه وشقيقته، وأعمامه وعمّته وأخواله وخالتيه، وأولاد حميّه. نذكره في هذه الذّبيحة الإلهيّة الّتي نقدّمها لراحة نفسه وعزاء أسرته.

3. "كنت جائعًا فأطعمتموني" (متّى 25: 35). في الدّينونة الخاصّة والعامّة، سنُدان على محبّتنا "لإخوة يسوع الصّغار": الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسّجين، ليس فقط بالمفهوم المادّيّ، بل بالرّوحيّ والمعنويّ أيضًا.

"كنت جائعًا" لا تعني فقط من جاع إلى الطّعام، بل من جاع إلى الكلمة، إلى العدالة، إلى الحقيقة، إلى الاحترام.

"كنت عطشانًا" لا تُختصر بالماء، بل بكلّ من عطش إلى المحبّة، إلى الحنان، إلى الأمان.

"كنت مريضًا" ليست فقط بالجسد، بل بالنّفوس الجريحة الّتي تحتاج شفاء الغفران.

"كنت عريانًا" لا تعني فقط اللّباس، بل الصّيت الحسن والكرامة.

"كنت غريبًا" لا تُحدَّد بالغربة عن الوطن، بل بالغربة في بيته وبين أهله.

"كنت سجينًا" لا تُختصر بالسّجن وراء القضبان، بل بالسّجن في الميول والخطايا.

ومن هنا، نفهم أنّ الدّينونة العامّة ليست فقط في نهاية الزّمن، بل هي حاضرة في كلّ يوم نُدعى فيه إلى الخدمة والمحبّة. فكلّ لقاء مع إنسان متألّم هو امتحان لنا أمام الله. كلّ موقف صمت أمام الظّلم هو مشهد من مشاهد الدّينونة. كلّ يد تمتدّ لمساعدة المحتاج هي استباق لليوم الأخير.

4. مجيء المسيح الثّاني ليس حدثًا أسطوريًّا بعيدًا في الزّمن، بل هو حقيقة إيمانيّة حاضرة في مسيرة كلّ إنسان. فكلّ مرّة نفتح فيها قلوبنا للمحبّة، نعيش عربون المجيء الثّاني، وكلّ مرّة نغلق قلوبنا أمام الآخر، نعيش حكم الدّينونة على أنفسنا.

المجيء الثّاني هو مجيء العدالة والرّحمة في آنٍ واحد، مجيء الحقّ الّذي يُشرق من وراء ظلال الأنانيّة والظّلم. وعندما يتكلّم يسوع عن مجيئه في المجد، فهو لا يقصد الخوف، بل الرّجاء العظيم بأنّ الخير سينتصر، والظّلم سينتهي، والدّمعة ستُمسح عن كلّ وجه.

الدّينونة العامّة، كما يصفها الإنجيل، هي محاسبة على الأمانة في المحبّة. فكلّ إنسان هو وكيل على نعم الله في حياته: على وقته، على علمه، على خيره، على عمله، على موقعه الاجتماعيّ والوطنيّ.

وسوف يُسأل في النّهاية: كيف استخدم هذه النّعم؟ هل شاركها مع من حوله؟ أم احتكرها لأنانيّته؟

فالله لا يحاسب على ما نملك، بل على ما أعطينا؛ لا على ما قلنا، بل على ما فعلنا؛ لا على عدد صلواتنا، بل على عمق محبّتنا وإيماننا.

5. إنجيل هذا الأحد، إنجيل الدّينونة العامّة، ليس رواية رمزيّة، بل هو مرآة لضميرنا الوطنيّ والإنسانيّ. عندما يقول الرّبّ: "كنت جائعًا فأطعمتموني، عطشانًا فسقيتموني، غريبًا فآويتموني، مريضًا فعدتموني، سجينًا فزرتموني"، لا يوجّه الكلام إلى أفراد فحسب، بل إلى الشّعوب والأمم والمجتمعات. فالدّينونة العامّة هي أيضًا دينونة الأوطان، على مدى أمانتها لرسالتها، وصدقها في خدمة إنسانها.

إنّ لبنان، وطن الرّسالة، يُمتحن اليوم أمام الله والتّاريخ. يُمتحن في مدى التزام مسؤوليّته بخدمة الإنسان، وفي مدى وفاء شعبه لقيم الحقّ والكرامة والعدالة. فالمسيح الدّيّان يسأل كلّ حاكم ومسؤول: هل أطعمتَ الجائع من مواطنيك؟ هل سقيت العطشان الّذي ينتظر لقمة العيش الكريم؟ هل آويت اللّاجئ والمهجّر والمطرود من أرضه؟ هل ضمّدت جراح المرضى والمقهورين؟ هل سمعت أنين الفقراء والعمّال والمزارعين؟

من هنا، يصبح هذا الإنجيل دعوة صارخة إلى توبة وطنيّة جماعيّة وفرديّة.

في ضوء هذا الإنجيل، تبدو المسؤوليّة الوطنيّة في لبنان أكثر من واجب إداريّ أو سياسيّ، إنّها واجب روحيّ وأخلاقيّ. فلبنان ليس ملكًا لأحد، بل هو وديعة الله في أيدينا جميعًا. كلّ مسؤول هو وكيل، وكلّ مواطن هو خادم. والدّينونة ستأتي على قدر أمانتنا لهذه الوديعة. لقد سلّمنا الرّبّ هذا الوطن ليكون أرض كرامة وإنسان، لا ساحة جوع ولا مزرعة مصالح.

إنّ المسيح يسألنا في إنجيل الدّينونة العامّة: "أين كنت حين جاع شعبك؟ حين انهارت مؤسّساته؟ حين هاجر شبابه؟ حين تألّم شعبك بصمت؟" حين سقط شهداء وضحايا وجرحى جراء إهمالك أو صفقاتك أو نفوذك؟

إنّنا نعيش في زمن تُفتِّش فيه النّفوس عن الخلاص، كما تُفتّش الأرض عن قطرة مطر. وها هو الإنجيل يذكّرنا بأنّ خلاص الأوطان يبدأ من خدمة الإنسان. فمن يطعم الجائع، يسند وطنًا، ومن يسقي العطشان يروي جذور الكرامة، ومن يفتح بابًا للرّجاء يغلق باب الجحيم.

هكذا تُبنى الأوطان، لا بالشّعارات بل بالفعل، لا بالوعود بل بالعطاء، لا بالخوف بل بالإيمان.

نريد وطنًا يضمّد جراحه بالصّلاة، ويستعيد عافيته بالمحبّة، ويواجه الظّلم بالحقّ، وينهض من بين الرّكام بإرادة الحياة.

لبنان مدعوّ إلى قيامة جديدة، لا بالسّياسة فقط، بل بروح الخدمة الّتي تحدّث عنها الإنجيل اليوم: خدمة متواضعة، صادقة، نقيّة، تُعيد إلى مؤسّساتنا معناها، وإلى سلطتنا بعدها الأخلاقيّ، وإلى شعبنا كرامته المفقودة.

فلنسمع جميعًا صوت الدّينونة الآن قبل أن يُقال لنا يومًا: "كنتُ جائعًا فلم تطعموني، عطشانًا فلم تسقوني، غريبًا فلم تؤووني".

ليكن هذا الأحد صوت ضمير لكلّ مسؤول في لبنان، أن يتذكّر أنّه سيُدان على مقدار محبّته للإنسان، لا على حجم سلطته ولا على عدد أنصاره. وليكن دعوة لكلّ مواطن أن يعيش مسؤوليّته بصدق وأمانة، فكلّ إصلاح يبدأ من القلب، وكلّ خلاص يبدأ من المحبّة.

عندها فقط، يتقدّس الوطن، وتصبح السّياسة خدمة، وتتحوّل السّلطة إلى رسالة، ويصير لبنان فعلًا أرضَ قداسةٍ وقيامة. أرضًا ترفع صلاة المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."