لبنان
11 أيلول 2023, 05:00

الرّاعي: لتحييد لبنان عن الصّراعات الإقليميّة والدّوليّة وضبط سيادته الدّاخليّة أوّلًا بجيش واحد وسلطة واحدة وسياسة خارجيّة واحدة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، أمس الأحد، قدّاس الشّهداء في سيّدة إيليج.

وللمناسبة، ألقى عظة تحت عنوان: "حبّة الحنطة، إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير" (يو 12: 24)، قال فيها:

"1.الرّبّ يسوع هو حبّة الحنطة الّتي وقعت في أرض الجلجلة حيث مات مصلوبًا، وبقيامته بعد ثلاثة أيّام وُلدت الكنيسة، شعب الله الجديد. مثل السّنبلة من حبّة القمح، شهداء المقاومة اللّبنانيّة الّذين نحيي ذكراهم اليوم هم حبّات قمح، باستشهادهم سَلِم الوطن والمواطنون الّذين يشهدون لقيمه ورسالته على الصّعيدين الإقليميّ والدّوليّ، ويرفضون كلّ ما يشوّه هويّته وكيانه. فكان أن اختارت رابطة سيّدة إيليج لهذه السّنة موضوع: "استشهدوا، لنشهد". فإنّا نحيّي هذه الرّابطة: رئيسها عزيزنا السّيّد فادي الشّاماتي، ومجلسها الإداريّ وسائر أعضائها، شاكرينهم على تكريم شهدائنا في هذا المكان المقدّس، في ظلّ سيّدة إيليج والبطاركة القدّيسين، وفي مقدّمهم جبرائيل من حجولا الّذي حرقه المماليك حيًّا في ساحة طرابلس. كما أحيّي سيادة اخي راعي الأبرشيّة المطران ميشال عون وأشكره على كلمته الصّادرة من عمق قلبه. كما أحيّي سيادة أخينا المطران منير خيرالله راعي أبرشيّة البترون الحاضر دائمًا معنا.

2. أمس الأوّل أحيينا مع سيادة أخينا المطران مارون العمّار، راعي أبرشيّة صيدا وشيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز الدّكتور سامي أبي المنى، ومعالي الوزير والنّائب السّابق الأستاذ وليد بك جنبلاط، الذّكرى الثّانية والعشرين للمصالحة التّاريخيّة في الجبل الّتي أبرمها المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، والأستاذ وليد بك جنبلاط. فكانت ذكراها التزامًا منّا سويّة بمواصلتها وإكمالها وتطويرها. شملت الزّيارة وقفات خمس: في شاناي بدارة سماحة شيخ العقل، وبلدة الباروك، وبعقلين، والمختارة، وأخيرًا في بيت الدّين في مطرانيّة صيدا المارونيّة حيث احتفلنا بقدّاس عيد مولد العذراء مريم، سيّدة الخلاص، شفيعة الكرسيّ الأسقفيّ بمشاركة سيادة المطران إيلي حدّاد، مطران صيدا ودير القمر للرّوم الملكيّين الكاثوليك ومطارنة وكهنة الأبرشيّة ونوّاب الشّوف وعاليه وغيرهم من الشّخصيّات، وعدد غفير من المؤمنين أتوا من مختلف المناطق. نشكر كلّ الّذين نظّموا هذه الزّيارة، وسخوا في إنجاحها بكثير من التّضحيات.

3. آلمتنا كما العالم كلّه ضحايا الزّلزال الّذي أصاب منطقة من مملكة المغرب، تسبّب بمئات من الضّحايا والآلاف من الجرحى، والمنازل المتهدّمة. نصلّي إلى رحمة الله في هذه الذّبيحة المقدّسة من أجل راحة نفوس الموتى، وشفاء المرضى، وافتقاد المشرّدين من دون مأوى. ونعرب باسم كنيستنا المارونيّة عن تعازينا الحارّة لجلالة الملك محمّد السّادس وسفير المملكة في لبنان والشّعب المغربيّ.

4. "إستشهدوا، لنشهد". مات شهداؤنا عنّا لنحيا. إفتدونا على مثال الفادي الإلهيّ، ربّنا يسوع المسيح الّذي افتدى خطايا البشريّة جمعاء بموته على الصّليب، وبعث فينا الحياة الجديدة بقيامته. موت شهدائنا مسؤوليّة في أعناقنا تقتضي منّا المحافظة على الوطن، كما أنّ موت الفادي الإلهيّ مسؤوليّة تقتضي منّا التّوبة عن خطايانا، والسّير في حياة جديدة. وقد جعل المسيح الرّبّ من الموت والقيامة نهجًا مسيحيًّا جديدًا بقوله: "من يحبّ ذاته يفقدها، ومن يجود بذاته يحفظها لحياة الأبد" (يو 12: 25). قال القدّيس أغسطينوس: "من المؤلم حقًّا أن تفقد ما تحبّ. من أحبّ نفسه وجعل الله خارج حياته، تخلّى عن الله. فلا يبقى الله في نفسه بل يغادرها. هكذا بمحبّتك لنفسك، تُخرج الله من حياتك، فتبتعد عن نفسك. فعد إلى ذاتك، بإعادة الله إليها بتوبتك عن الخطيئة والشّرّ."

5. "إستشهدوا، لنشهد" لمسيحيّتنا إيمانًا وثقافةً وحضارةً نطبع بها ثقافتنا اللّبنانيّة، وثقافات بلدان العالم العربيّ. فالمسيح الرّبّ يريدنا "خميرة في العجين" (راجع متّى 13: 33)، "وملحًا في طعام" (راجع متّى 5: 13)، و"نورًا في ظلام" (راجع متّى 5: 14). إنّا نشهد على المستوى الثّقافيّ أنّ المسيح الإله جعلنا إخوة وأخوات، وبه أبناءً وبناتٍ للإله الواحد. شريعة هذه الثّقافة هي المحبّة واحترام الآخر المختلف، ومدّ الجسور معه في كلّ ما يجمع.

6. "إستشهدوا، لنشهد" للتّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة في الوحدة، الّتي يمتاز بها لبنان عن سواه من بلدان الشّرق الأوسط. هذه التّعدّديّة في الوحدة منظّمة في الدّستور. وتجعل من لبنان واحة تلاقٍ وحوار وحرّيّات مدنيّة عامّة كما تقرّها شرعة حقوق الإنسان، الّتي وقّعها لبنان منذ إعلانها سنة 1948، وأصبحت بنودًا واضحة في الدّستور.

7. "إستشهدوا، لنشهد" للعيش معًا مسيحيّين ومسلمين بروح التّعاون والمشاركة المتساوية في الحكم والإدارة، وفقًا للدّستور وللميثاق الوطنيّ، وبالاحترام والثّقة المتبادلة، والولاء للبنان الوطن دون سواه أكان لدول أو لأشخاص أو لإيديولوجيّات. هذا العيش معًا المرتكز على الميثاق الوطنيّ والمنظّم في الدّستور يعطي شرعيّة لأيّ سلطة في الدّولة، كـما تنصّ مقدّمة الدّستور.

8. "إستشهدوا، لنشهد" لحياد لبنان، وتحييده والنّأي بنفسه، لكي يتمكّن من القيام برسالته الخاصّة به، أعني: ممارسةَ دوره كمقرّ دوليّ للحوار بين الأديان والثّقافات والإتنيّات، اهتمامَه بالشّؤون العربيّة وفي طليعتها القضيّة الفلسطينيّة، وبقضايا العدالة وحقوق الإنسان والسّلام. في هذا السّياق نودّ الإعراب عن أسفنا للمعارك الدّائرة في مخيّم "عين الحلوة"، الّتي تخلّف قتلى وجرحى ومشرّدين وتنشر الخطر والذّعر في صفوف الآمنين في المنطقة، هذا فضلًا عن أنّها تصيب في الصّميم القضيّة الفلسطينيّة. وعليه لا يمكن أن يكون لبنان حياديًّا حيال ثلاثة: حيال إسرائيل، وحيال الإجماع العربيّ إذا حصل، وحيال الحقّ والباطل.

الحياد يقتضي تحييد لبنان عن الصّراعات الإقليميّة والدّوليّة، وعن الدّخول في حروب على مستوى هذين الصّعيدين. كـما يقتضي أن يضبط لبنان سيادته الدّاخليّة أوّلًا بجيش واحد، وسلطة واحدة، وسياسة خارجيّة واحدة، ثمّ سيادته الخارجيّة على حدوده بضبطها وفي الدّفاع عن نفسه بقواه الذّاتيّة المنظّمة.

9. "إستشهدوا، لنشهد" لوجوب انتظام المؤسّسات الدّستوريّة وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهوريّة. كما لوجوب تطبيق اتّفاق الطّائف نصًّا وروحًا، فيوضع حدٌّ للفوضى في السّلطة الدّستوريّة، وفي التّعيينات الاداريّة والأمنيّة، وللتّفسير العشوائيّ للدّستور المعدّل باتّفاق الطّائف، وللخلط بين مخالفة الدّستور والميثاقيّة. فلا يختبئ مخالفو الدّستور وراء الميثاقيّة.

10. نصلّي من أجل راحة نفوس شهداء المقاومة اللّبنانيّة، وعزاء أهلهم، ملتمسين من الله أن يمنحنا النّعمة لنقتدي بيسوع المسيح "حبّة الحنطة"، فنجعل من حياتنا مسيرة تضحية من أجل ثمار روحيّة واجتماعيّة ووطنيّة، فنمجّد بذلك الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".