لبنان
11 كانون الأول 2016, 10:45

الراعي: لتذليل العقبات بوجه تشكيل الحكومة وإقرار قانون جديد للانتخابات

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس اختتام السنة اليوبيلية للطوباوي الأخ شارل دي فوكو، على مذبح الكنيسة الخارجية للصرح "كابيلا القيامة". بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان:"لا تخف يا يوسف" (متى 1:20)، قال فيها:

 

 

1. ترائي ملاك الربّ ليوسف في الحلم، وهو في شكّ وحيرة وتساؤلات، كان لا بدّ منه ليستكمل الله البشارة لمريم. فكما دبّر الآب أمًّا لابنه المتأنِّس من أجل خلاص العالم وفداءِ الإنسان، بشخص مريم، كذلك دبّر أبًا له بشخص يوسف بن داود خطّيبها البتول. في البشارة لمريم نقل الملاك جبرائيل إليها اختيار الله لها لتكون، وهي عذراء، أمًّا لابنه الذي ستحبل به بقوّة الروح القدس. فأطاعت إرادة الله وأعلنت نفسها خادمة الربّ. وفي الترائي ليوسف، كشف له الملاك سرّ حبل مريم والمولود فيها من الروح القدس، واسمه يسوع لأنّه مخلّص الشعب من خطاياهم، وأكّد له أنّ مريم هي امرأته بحسب الشريعة، ويسوع ابنه بالتبنّي، وأنّ دعوتَه حراسةُ الكنزَين. فأطاع يوسف، وفعل كما أمره ملاك الربّ.

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، ونختتم السنة اليوبيليّة المئة لاستشهاد الأخ شارل دي فوكو، الذي رفعته الكنيسة طوباويًّا على مذابحها. فإنّنا نحيِّي عائلته الروحيّة، المؤلَّفة من أربع أُخوّات تضمّ راهبات ورهبانًا وكهنة وعلمانيّين، موزَّعين اليوم على أكثر من سبع عشرة جماعة روحيّة. ونهنِّئهم بثمار السنة اليوبيليّة التي تعطيهم دفعًا من روحانيّة الأخ شارل والسَّير على خطاه في الاقتراب من أولئك الذين لا يطالهم أحد، والمهمَلين والمنتهَكين في كرامتهم الإنسانيّة وأبسط حقوقهم. وما أكثرَهم اليوم في العالم بسبب الهوّة السحيقة بين الأغنياء والفقراء! وما أكثرهم في بلدان الشَّرق الأوسط التي تدمِّرها الحروب المفروضة عليها قسرًا، فتهدم الحجر والبشر والحضارات، وتشرّد المواطنين الآمنين عزّلًا ومحرومين ممّا جنت أيديهم بالتعب والتضحيات، وترمي بهم على دروب العالم وأبواب الدول، جائعين وعطاشًا ومرضى، مسنّين ونساءً حاملات، وأطفالًا ورضّعًا.

كما نرحّب بيننا بجماعة "الحياة الحقيقيّة في الله"، وبعائلة المرحوم جورج قبلان كيوان الّذي ودّعناه مع عائلته وأهالي الفريديس. نحيّي زوجته وأولاده وبخاصّة المونسنيور مارون كيوان النّائب العام في أبرشيّة صيدا المارونيّة والقاضي في محكمتنا البطريركيّة الاستئنافيّة، ونحيّي مختار الفريديس. نصلّي لراحة نفسه المرحوم جورج ونجدّد التّعازي لأسرته.

3. لم يؤسّس الأخ شارل هذه الرهبنة، بتنوّع الأُخوّات فيها، بل هي نبتت من روحانيّته واستشهاده "كالسنبلة من حبّة القمح التي تقع في الأرض وتموت" (يو12: 42). لقد وضع الربّ يسوع في الكنيسة نهج حبة الحنطة. بل هو نفسه "حبّة الحنطة التي ماتت وأثمرت". فهو مات على الصليب فدىً عن خطايا الجنس البشري، وقام من الموت جسدًا سرّيًا هو الكنيسة، وباثًّا فيها وفي كلّ مؤمن ومؤمنة الحياة الإلهيّة بالروح القدس. كلّنا مدعوّون لاعتماد هذا النهج لكي تتواصل فينا ثمار سرّ المسيح الفصحي.

5. " لا تخف يا يوسف" (متى 1: 20). كان خوف يوسف متأتِّيًا من شكوك وتساؤلات تتنازعه: فمن جهة سيحسب الناس حتمًا أنّ مريم خطّيبته قد خانته أو تجاوزت موجبات الخطبة قبل المساكنة الزوجيّة. وهذا الأمر يستوجب الرجم بحسب الشريعة. لكن "برارته" وحبّه النقي الطاهر لمريم منعاه من تصديق ذلك، فرأى في الأمر سرًّا إلهيًّا.

ومن جهة ثانية اعتبر يوسف أن لا مكان له ولا دور في هذا السّر، وأن على مريم أن تواجه الأمر بنفسها. وكأنّ زواجهما الشرعي قد انحلّ بحدّ ذاته. فتجلّت برارته في تواضع وامّحاء ذات أمام السّر الإلهي الكبير.

وهو بذلك يدعونا إلى التروّي والتشاور والصلاة واستلهام انوار الروح القدس، قبل اتّخاذ أي قرار أو موقف حرج، وبخاصّة إذا كانت له نتائج سلبيّة على الغير.

عندما قرّر يوسف ألّا يشهِّر بمريم، وأن يطلّقها سرًّا (الآية 19)، وانشغل باله طوال اللّيل، مصلّيًا، ومتلمِّسًا نورًا سماويًّا، ظهر له الملاك في الحلم و"أبان" له كلّ هذا السّر، وحدّد له موقعه ودوره فيه (الآية 20 وما يليها).

 هي جهوزية الله لسماع الداعين إليه، وجهوزية يوسف في الإصغاء لِما يوحي الله، والعمل بموجبه. "فلمّا قام يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ: أخذ امرأته، ولم يعرفها، فولدت ابنًا سمّاه يسوع" (متى1: 24-25).

5. نجد هذه الجهوزية في حياة الأخ شارل. فمن بعد أن فقد إيمانه بسبب فقدانه أباه وأمَّه، وهو في السادسة من العمر، وغاص في حياة اللَّهو والطيش، لكي يبدّد حزنه، كان يتهيّأ له لقاء داخلي مع الله، قَلَب حياته. فعندما كان ضابطًا في الجيش الفرنسي، وأرسل في بعثة عسكرية إلى الجزائر، وترك الجيش من بعدها، عاد إلى الجزائر باحثًا عن حقيقة الله، وراح يصلّي: "يا ربّ، إذا كنتَ موجودًا، اجعلْني أعرفُك". هذه الجهوزيّة عند الأخ شارل قابلتها جهوزيّة عند الله. وبعمر 28 سنة تاب، وواصل ارتداده بواسطة أب روحي. وكان الربّ يُسمعُه كلمته المطمئنة "لا تخفْ، يا شارل!" كما قالها ليوسف ومريم وزكريا، وردّدها على الرسل والتلاميذ أمام كلّ دعوة وقرار.

ثمّ ذهب إلى الأراضي المقدّسة، حيث جذبته حياة يسوع البسيطة والمتواضعة في الناصرة. فاعتنق الحياة الرهبانيّة وارتسم كاهنًا سنة 1901 بعمر 43 سنة، وعاش في الجزائر حياة التقشّف والقداسة، متّبعًا خطى الربّ يسوع، متشبّهًا بمحبّته، وكان يلتمس منه المحبة كفقير وهو يصلّي: "يا يسوع، بما أنك تريد أن تهب ذاتك حقًّا، وفي كلّ ساعة، وبما أنك تريد أن أحبّك بكل جوارحي، ألتمسُ منك أن تنعم عليّ بهذا الحبّ. فلا أحد غيرك يستطيع أن يهبني إيّاه. إنني فقير وإليك أمدّ يدي مستعطيًا". وفيما كان يعيش في محبسته، دخل عليه مجرم ليلًا وقتَله بالرصاص، ورمى جثّته في حفرة أمام المحبسة، في أوّل كانون الأوّل 1916.

6. على مسافة أسبوعَين من عيد ميلاد الربّ يسوع الذي اسمُه "عمانوئيل"، "الله معنا"، في وحي أشعيا (أش7: 14)، يقول لنا الأخ شارل: "إن الله، كي يخلّصنا، جاء نحونا، وانضمّ إلينا، وعاش معنا في علاقة حميمة جدًّا. هكذا علينا أن نفعل نحن أيضًا من أجل خلاص النفوس: أن نذهب نحوها، ونختلط بها، ونعيش معها. هو عمانوئيل يقول لنا: "لا تخفْ! لا تخافي! لا تخافوا!" إنّها الدعوة لحياةٍ جديدة، ونظرة جديدة، ومبادرات جديدة، نعيشها في البيت والعائلة والمجتمع والدولة. هذه الكلمة المطمئنة يقولها الله لكلّ مسؤول، كي يُخرجَه من أسر ذاته ومصالحه ونظرته الضيّقة.

7. نحن نرجو ذلك بين الزوجَين في حالاتهم الصعبة، وبين رعاة الكنيسة وشعبهم، وبين الكتل السياسيّة والنيابيّة وواجب خدمة الخير العام ومصلحة الوطن العليا، ولا سيّما اليوم، عندنا في لبنان، واجب تذليل العقبات بوجه تشكيل الحكومة، وإقرار قانون جديد للانتخابات النيابيّة، تمهيدًا لإعادة الحياة الطبيعيّة إلى مؤسّسات الدولة.

ونرجوه بين الدول المتحاربة في بلدان الشَّرق الأوسط، من أجل إيقاف الحروب، وإيجاد الحلول السياسيّة، وعودة جميع النازحين واللاجئين والمُبعَدين إلى أوطانهم وبيوتهم وممتلكاتهم.

ونرجوه من أجل إحلال سلام عادل وشامل ودائم في هذه الارض المشرقيّة التي وُلد فيها "أميرُ السلام" (أش9: 5) يسوع المسيح، ومنها أُعلن للعالم إنجيل السلام.

وليبقَ مرتفعًا من هذه الأرض نشيدُ المجد والتسبيح للثالوث المجيد، الإله الواحد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*   *   *