لبنان
28 آذار 2022, 05:00

الرّاعي: ماذا تفعلون أيّها المسؤولون السّياسيّون لتقصّروا ليل لبنان الحالك الظّالم؟

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد شفاء المخلّع، ترأّس البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، ألقى خلاله عظة تحت عنوان "ورأى يسوع إيمانهم" (مر 2: 5 و9(، فقال:

"1. بفضل إيمان الرّجال الأربعة، الّذين عبّروا عنه بالأفعال، شفى يسوع مخلّع كفرناحوم أوّلًا من شلله الرّوحيّ بمغفرة خطاياه، ثمّ من شلله الجسديّ. فعندما "رأى إيمانهم، قال للمخلّع: مغفورة لك خطاياك... وقم احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مر 2: 5 و9). وهكذا ظهر يسوع "طبيب الأرواح والأجساد". إنّ إيمان الرّجال الأربعة وُلد بنتيجة سماعهم كلمة الله الّتي كان يسوع يخاطب بها الجمع في ذاك البيت بكفرناحوم. يعلّمنا بولس الرّسول أنّ "الإيمان من السّماع" (روم 10: 14). فلنلتمس اليوم هبة الإيمان لكي نجتاز على هدي نوره الظّلمات المحدقة بنا وبشعبنا، وما أكثرها.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. فأرحّب بكم جميعًا وبخاصّةٍ بالمجلس التّنفيذيّ الجديد للرّابطة المارونيّة، برئيسه السّفير الدّكتور خليل كرم والأعضاء، وأحيّي الرّئيس السّابق النّائب السّابق نعمة الله أبي نصر والمجلس. وإذ نبارك لهم انتخابهم بطريقة ديمقراطيّة بامتياز، نتمنّى لهم النّجاح في تحقيق أهداف الرّابطة، وقد وضع ناخبوكم كلّ الثّقة واختاروكم واحدًا واحدًا لكي تؤدّوا الرّسالة الموكولة إليكم. ثقوا أنّنا نسند وندعم كلّ نشاط خيّر تقومون به لأنّ ما يعنينا هو أن تكون الرّابطة "رابطة" تجمع الشّمل بنوع خاصّ.

وأوجّه تحيّة خاصّة إلى ثلاث عائلات ودّعنا معها ثلاثة من أحبّائهم وأحبّائنا: عائلة المرحوم المختار سمعان باسيل، وعائلة المرحومة أدال كريم يمّين جدّة عزيزنا المرحوم المونسنيور توفيق بو هدير لأمّه، وعائلة المرحوم نصرالله العضم شقيق المرحوم الأباتي جناديوس العضم الرّئيس العامّ السّابق للرّهبانيّة المارونيّة المريميّة. إنّهم وجوه ثلاثة أعزّاء على قلبنا لما كانت تشدّنا إليهم وإلى عائلاتهم من روابط محبّة وتقدير واحترام. نصلّي لراحة نفوسهم وعزاء عائلاتهم.

3. وقعت كلمة يسوع في قلوب أولئك الرّجال الأربعة، فآمنوا بأنّه قادرٌ على شفاء المخلّع الّذي في بلدتهم، كفرناحوم. فألهمهم إيمانهم أن يحملوه إلى أمام يسوع، وألهمهم الوسيلة، عندما عجزوا عن إمكانيّة الدّخول به إلى يسوع، بسبب كثافة الجمع. فكشفوا السّقف ودلّوا المخلّع على فراشه إلى أمام يسوع (راجع مر 2: 4). فكان الشّفاء المزدوج روحًا وجسدًا. الإيمان تحدٍّ، الإيمان نور للعقل وللقلب، ومعلّم وموجّه وملهم.

4. يمثّل الرّجال الأربعة: الكنيسة الّتي تحمل بإيمانها وصلاتها جميع النّاس إلى أمام عرش الله. ويمثّلون الجماعة المصليّة في العائلة أو في الكنيسة، والّتي تتشفّع. ويمثّلون الكاهن الّذي اختير من النّاس وأقيم لدى الله من أجل النّاس (عب 5: 11) والّذي بصلاته الشّخصيّة يحمل حاجات أبناء رعيّته وبناتها وسواهم إلى أمام عرش الله. ويمثّلون الرّهبان والرّاهبات والنّسّاك الواقفين نفوسهم على الصّلاة باسم الكنيسة وأبنائها. ولهذا نقول، إنّه بفضل هذه الصّلوات، يد عناية الله تحمينا وتقود مجرى حياتنا والتّاريخ.

في هذا الإطار شاركنا أوّل من أمس، في مساء عيد بشارة العذراء، في كنائسنا وأديارنا، مع جميع كنائس العالم، قداسة البابا فرنسيس بصلاة تكريس روسيا وأوكرانيا لقلب مريم الطّاهر، ملتمسين نهاية الحرب المدمّرة وإحلال السّلام فيهما وفي العالم. الصّلاة سلاح الكنيسة الأمضى.

5. عندما فاجأ يسوع الجمع بمغفرة خطايا المخلّع، حتّى اعترض بعض الكتبة هناك، لأنّ الله وحده يغفر الخطايا، أعطى البرهان على أنّه بقوّته الإلهيّة غفر خطايا المخلّع، بشفائه من شلله الجسديّ. وبذلك أكّد الرّبّ حقيقتين: الأولى، أنّه أعطى الكهنوت في الكنيسة سلطان مغفرة الخطايا؛ والثّانية، أنّ الخطيئة نولّد شللًا في نفس الإنسان شبيهًا بشلل الجسد. فهي تشلّ النّفس والعقل والإرادة والقلب، كما يشلّ المرضُ الجسد. فليسأل كلّ إنسان عن حالة شلله الرّوحيّ والأخلاقيّ والسّياسيّ والقضائيّ والإداريّ، وليقرّ بخطيئته الّتي تتسبّب بهذا الشّلل، ويندم عليها، ويغيّير مجرى حياته، لكي يستطيع الوقوف في حضرة الله. ولأنّ لا أحد يعترف بخطيئته الشّخصيّة ويتوب، بتنا نعيش في هيكليّة خطايا وظلمات.

6. الظّلمة الحسّيّة تجعلنا نبتكر الوسائل لإزالتها بالنّور. فماذا تفعلون أيّها المسؤولون السّياسيّون، أكنتم في الحكم أم خارجه؟ ماذا تفعلون لتقصّروا هذا اللّيل الحالك الظّالم الّذي وضعتم فيه لبنان وشعبه ومؤسّساته؟ ونتساءل:

أما لليل الأزَماتِ والفتنِ والأحقادِ أن ينجلي؟  

أما لليلِ الانهيارِ وتسيّبِ الحدود ومداخيل جمارك المطار والمرافئ والضّرائب والفواتير والفلتانِ الأمنّيِ أن ينجلي؟  

أما لليلِ الفَقرِ والجوعِ والبَطالةِ أن ينجلي؟  

أما لليلِ القضاءِ الانتقائيِّ والانتقاميِّ والانتخابيِّ والمسيَّسِ والمركّبة ملفّاته مسبقًا أن ينجلي؟

أما لليلِ تلفيقِ الاتّهاماتِ والدّعاوى والسّكوتِ عن أخرى ساطعةٍ أن ينجلي؟

أما لليلِ تجميدِ التّحقيقِ في جريمةِ تفجيرِ مرفأ بيروت أن ينجلي؟  

أما لليلِ الخروجِ عن الدّولةِ والشّرعيّةِ والجيشِ أن ينجلي؟  

أما لليل الهيمنةِ والباطلِ وتعطيلِ الدّستورِ والنّظامِ والميثاقِ أن ينجلي؟  

أما لليل ضربِ المؤسّساتِ الأساسيّةِ والمصارف وحجز أموال المودعين وضرب الاقتصادِ الحرِّ أن ينجلي؟  

أما لليلِ تلوين كلّ شيء بالطّائفيّة والمذهبيّة أن ينجلي؟  

أما لليلِ طمس حقيقة مرض لبنان السّياسيّ القتّال أن ينجلي؟

أما لليل مفهوم الدّولة أن ينجلي بمكونّاتها الثّلاثة: أرض وشعب ومؤسّسات، وبوظائفها الأربع: وحدة القوّة المنظّمة، ووحدة العلاقات الدّيبلوماسيّة، ووحدة فرض الضّرائب وجبايتها، ووحدة إدارة السّياسات العامّة؟

إلى متى أيّها المسؤولون والمتعاطون الشّأن السّياسيّ تُمْعِنونَ في قهرِ شعبنا، وتَمنعُونه من التّعبيرِ والشّكوى والمعارضةِ ورفعِ الرّأس، وتَنسِفونَ الحلولَ، للإطباقِ على لبنان. لا، إنَّ حقَّ التّعبيرِ عن الرّأيِ يُولدُ مع الإنسانِ ويَضمَنُه الدّستور عندنا في لبنان. حذارِ من المسِّ به ونقلِ البلادِ إلى جوٍّ استبداديٍّ وبوليسيٍّ شبيهٍ بالأنظمةِ الشّموليّةِ البائدة. هذه الأساليبُ القمعيّةُ لا تُشبهُ لبنان الّذي أمضى تاريخَه في الدّفاع عن الحرّيّات، وهي رسالته، إنَّ التّمادي في القمع يؤسِّسُ لانتفاضةٍ شعبيّةٍ لا أحدَ يستطيعُ التّنبؤَ بمداها ونتائجها.

7. أمام حالة القضاء المحزنة والخطرة نتساءل:

أين القضاةُ الشّرفاء؟ وأين المرجعياتُ القضائيّةُ لا تقوم بواجباتِها النّاهيةِ حمايةً للجسمِ القضائيّ؟ وأين السّلطةُ لا تَردَعُ ذاتَها عن استغلالِ بعضِ القضاة ولا تردعُ المتطاولين على دورِها؟ هل الهدفُ من بعضِ الإجراءاتِ الصّادمةِ خلقُ واقعٍ يؤدّي إلى تطييرِ الانتخاباتِ النّيابيّة في موعدها، وتحميلِ مسؤوليّةِ هذه الجريمةِ الوطنيّة للطّرفِ الّذي يريد حصولَها حقًّا. يجب أن يتمّ هذا الاستحقاق الدّستوريّ وأن يَعقُبَه انتخابُ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّةِ قبل شهرين من نهاية ولاية الرّئيس الحاليّ بموجب المادّة 73 من الدّستور. من شأن الرّئيس الجديد أن يَنهضُ بالبلادِ ويَنتشلُها من المحاورِ إلى الحِيادِ، ويَضعَ حدًّا لهذا الانهيارِ والدّمار. لبنانُ ليس مُلكَ فئة. إنه مُلك الشّعبِ والتّاريخِ والمستقبل.

8. دولٌ عديدةٌ مرّت بما نَمرّ به وتَمكّنت من التّغلّبِ على أزماتِها. ها هي مِصر الّتي استقبلتنا الأسبوعَ المنصرمَ تَخرج من أزمةٍ لا تَقِلُّ حِدَّةً من أزمةِ لبنان. فقد حَظيَت بحوكمةٍ رشيدة، على يد رئيسٍ مستنيرٍ وحكيم، الرّئيس عبد الفتّاح السّيسي– الّذي أشكره على لقائنا المثمر وعلى حبّه للبنان والشّعب اللّبنانيّ وهو حبّ ترجمه بالمساعدات المتنوّعة وهو يواصلها- لقد انتَشلَ مصر، وأجرى الإصلاحاتِ الضّروريّة، ووحّدَ قرارَ الدّولةِ ومرجِعيّتَها، فنال رضا المجتمعَين العربيِّ والدُّوليِّ والمؤسّساتِ النّقديّةِ الدُّوليّة، فانهمَرت على مِصرَ المساعداتُ والهباتُ والقروض الّتي ساعدتها على استعادةِ استقرارِها ودورِها الرّياديِّ في العالمِ العربيّ. دولة لبنان تنتظر مثل هذا الرّئيس لينقذ شعبها.

9. لقد جرحت قلبنا وقلوب اللّبنانيّين جريمة قتل أمّ مع بناتها الثّلاث في بلدة أنصار الجنوبيّة. فتساءلنا كيف يمكن أن يصبح قلب المجرمين من حجر إلى هذا الحدّ. نصلّي كي يحوّل الله القلوب الحجريّة إلى قلوب من لحم تكون مكان الحنان والحبّ. وإذ نصلّي لراحة نفوس الضّحايا الأربع، فإنّا نعزّي أهلهم والله وحده يعرف كيف يعزّي القلوب الجريحة. ونطالب القضاء بمعاقبة المجرمين بما يستحقّونه ردعًا لمثل هذه الجرائم ضدّ الإنسانيّة.

10. يا ربّ، إشفنا جميعًا من شلل العقل والإرادة والقلب، فتعود إلينا الحقيقة، والحرّيّة المحرِّرة، وحنان المحبّة. لك المجد والشّكر أيّها الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".