لبنان
24 تشرين الثاني 2020, 06:00

الرّاعي: ما زلنا نعوّل على إرادات حسنة مخلصة للوطن تعمل على استعادة قرار الدّولة المستقلّ

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد بشارة العذراء مريم، ترأٍّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في كنيسة الصّرح- بكركي، ألقى خلاله عظة متأمّلاً بمريم الّتي "قبلت تصميم الله الخلاصيّ ودورها فيه، ولو كان مخالفًا لتصميمها الزّواجيّ بخطبة شرعيّة مع يوسف. فأجابت على بشرى الملاك بطاعة كاملة، قائلة: أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38). وهكذا أعلنت نفسها خادمة لإبن الله الّذي سيولد منها بقوّة الرّوح القدس، وللتّصميم الإلهيّ الّذي يتحقّق بواستطها."

وعلى ضوء هذا الحدث، تابع الرّاعي عظته قائلاً: "ما أجمل أن يقرأ كلّ مسؤول وصاحب رسالة، موقعه من هذا المنظار، أكان في العائلة، أم في الكنيسة، أم في المجتمع، أم في الدّولة! فيصغي لكلام الله وإلهامات الرّوح القدس، ويقوم بمسؤوليّته بروح الطّاعة لإرادة الله. وبذلك يضع مدماكًا في تحقيق التّصميم الإلهيّ.

تعلّمنا العذراء مريم أنّ المسؤوليّة خدمة للآخرين مشرّفة، وليست خدمة للذّات. وبكونها خدمة، فإنّها تتحلّى بالتّواضع والجهوزيّة والتّفاني والتّجرّد وبروح إنجيل التّطويبات. ولأنّ مريم عاشت الخدمة بهذه الفضائل، رفعها الله إلى أسمى المراتب بانتقالها بالنّفس والجسد إلى السّماء، وبتكليلها سلطانة على السّماء والأرض.

إنّني أحيّي، مع إخواني السّادة المطارنة والأسرة البطريركيّة، كلّ الّذين يشاركوننا بالرّوح في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة عبر محطّة تيلي لوميار- نورسات، والفيسبوك وسواها من وسائل الاتّصال. ونصلّي معًا من أجل شفاء المصابين بوباء كورونا، وإبادة هذا الوباء، وتحرير الكرة الأرضيّة منه وقد شلّها في جميع قارّاتها. نصلّي من أجل أن يتوصّل الأطبّاء والباحثون إلى إيجاد العلاج الشّافي، رحمةً بالبشريّة، وعلى الأخصّ بالفقراء والعاطلين عن العمل والجياع من جرّاء توقّف الآلاف من المؤسّسات الصّناعيّة والاقتصاديّة. ونهتف قائلين: إرحم يا ربّ، إرحم شعبك!

في حدث البشارة حوار بين الله والإنسان، جرى بين الملاك جبرائيل ومريم، عذراء النّاصرة على ثلاث مراحل سريعة: حيّاها الملاك حاملاً إليها البشرى الإلهيّة، أمّا هي فاضطربت بخوف متسائلة في داخلها عن معنى هذا السّلام؟ طمأنها جبرائيل مزيلاً منها الخوف، وبلّغها الدّعوة الإلهيّة لتكون أمّ إبن الله المتجسّد منها، أمّا هي فأعلنت عدم قدرتها البشريّة؛ شرح لها الملاك سرّ أمومتها بقوّة الرّوح القدس وهي بتول، عندها أجابت مريم بإعلان طاعتها الكاملة لله.

إنّه حوار نموذج يقوم بين الله وكلّ واحد منّا، عندما نصغي لكلامه ونحفظه في القلب، ونحيطه بالصّلاة والتّأمّل. إصغاء وصلاة وتأمّل. هذه الثّلاثة تضمن هذا الحوار الضّروريّ في حياتنا، إذ لا يمكن أن نفصل واقعنا في شتّى مراحل الحياة عن إرادة الله وتصميمه الخلاصيّ الّلذين يتحقّقان بالتّعاون مع كلّ إنسان وفقًا لدوره الخاصّ.

البشارة لمريم هي إعلان إنجيل يسوع المسيح. إنّه "الخبر السّارّ" الّذي تجلّى فيه سرّ الله الواحد والثّالوث الفاعل في تاريخ البشر: الآب يرسل إبنه متجسّدًا من عذراء، بقوّة الرّوح القدس، من أجل خلاص كلّ إنسان.

وتجلّى في إنجيل البشارة سرّ مريم المملوءة نعمة والمدعوّة للدّخول في عهد خلاصيّ مع الله؛ وسرُّ أمومتها، وهي عذراء، بقوّة الرّوح القدس، وسرُّ طاعتها واضعةً ذاتها بالكلّيّة في تصرّف تصميم الله.

ها نحن أمام سرّ الإله- الإنسان، وسرّ العذراء- الأمّ. يا لتبادل عجيب!

يحتفل لبنان اليوم بعيد الاستقلال السّابع والسّبعين، بعد ثلاثة وعشرين سنة من الانتداب الفرنسيّ، وتركيز الدّولة المدنيّة الّتي تفصل بين الدّين والدّولة، والّتي يتساوى فيها المسيحيّون والمسلمون، وهذا ما ناضل من أجله البطريرك الكبير المكرّم الياس الحويّك.

إستقلالُ لبنان لا يَعني نهايةَ الانتدابِ الفرنسيّ فقط، بل خروجَ لبنان من سياسةِ المحاورِ إلى رحابِ الحياد، فلا ينحاز تارةً إلى الشّرق وطورًا إلى الغرب. ولذلك شَدّد بيانُ حكومةِ الاستقلال على أنَّ لبنانَ يَلتزمُ "الحِيادَ بين الشَّرق والغرب". ودلَّت تجربةُ لبنانَ بعد استقلالِه، أنَّه كلّما كان يَلتزم الحِيادَ كان استقلالُه يَنمو، واقتصاده يزدهر. وكلّما كان يَنحازُ كان استقلالُه يَـخبو واقتصاده يتراجع. وها هو الواقعُ الحاليّ المتداعي يَكشِفُ مدى الدّمار الوطنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ الّذي أسفرَت عنه- ولا تزال- سياسةُ الانحياز.

عيد الاستقلال، ولو أتى جريحًا ومهشّمًا، فإنّا ما زلنا نعوّل على إرادات حسنة مخلصة للوطن تعمل على استعادة قرار الدّولة المستقلّ، وبناء دولة جيشها واحد لا أكثر، وقوميّتها واحدة لا أكثر، وولاؤها واحد لا أكثر؛ دولة حدودها محصّنة، وسيادتها محكمة، وشرعيّتها حرّة، ودستورها محترم، وحكومتها استثنائيّة إنقاذيّة قادرة على النّهوض بالبلاد، وعلى كسب الثّقة الدّاخليّة والخارجيّة العربيّة والدّوليّة؛ دولةٍ تعيد بناءها الدّاخليّ على الدّستور والميثاق نصًّا وروحًا؛ دولةٍ تصلح الخلل في هويّتها الأساسيّة: العيش المشترك (مقدّمة الدستور، ي) كمشاركة متوازنة بين المسيحيّين والمسلمين في حياة الدّولة لا كمحاصصة بين أفراد سياسيّن نافذين؛ الدّيمقراطيّة (مقدّمة الدّستور، ع) بشقّيها الموالاة والمعارضة، لا الأكثريّة والأقلّيّة وطغيان الواحدة على الأخرى وشلّ الحياة العامّة؛ تحقيق الإنماء المتوازن للمناطق ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، تأمينًا لوحدة الدّولة واستقرار النّظام (مقدّمة الدستور، ز).  

لقد ضاق صدر اللّبنانيّين جميعًا بانتظار حكومة جديدة تفرج البلاد. الكلّ يعلم أنّ عرقلة التّأليف في العودة إلى نغمة الحصص والحقائب والثّلث المعطّل وتعزيز فريق وتهميش أفرقاء؛ هذا الأسلوب عزّز الفساد والاستيلاء على المال العامّ وهدره، وأوصل الدّولة إلى حالة الانهيار والإفلاس. هل يدرك المعطّلون أنّ النّاتج المحلّيّ انحدر هذه السّنة من أربعة وخمسين مليار دولار إلى خمسة وعشرين، وأنّنا خسرنا سنة إصلاح لا تُقدّر بثمن؟ إذا تشكّلت الحكومة على صورة سابقاتها، لا سمح الله، سينتج عنها الخراب الكامل. والغريب أنّهم يرفضون المشورة والرّأي والنّصيحة والملاحظة، ويتصرّفون خلافًا للدّستور الّذي ينصّ على أن "تمثّل السّلطةُ الإجرائيّة الطّوائف بصورة عادلة"، لا القوى السّياسيّة ولا "أحجام" قوى سياسيّة، ولا كُتل نيابيّة. فالهدف من تمثيل "الطّوائف" إنّما لتوفير الأمن النّفسيّ بعدم الإقصاء والعزل.

وما القول عن ضحايا ومنكوبي انفجار مرفأ بيروت، والصّمت بشأن التّحقيق العدليّ مطبق حتّى الآن، وقد مرّ ما يقارب الأربعة أشهر؟ ونحن نتساءل معهم لماذا لا يشمل هذا التّحقيق كلّ المعنيّين إلى أقصى حدود المسؤوليّات، ولو كشهود. إنّ جريمة بهذا الحجم لا يمكن أن تستثني أحدًا مهما علا شأنه. مرّة أخرى نقول: إنّها ساعة القضاء الحرّ والشّجاع!

"ها أنا أمة الرّبّ" (لو 1: 38). هذا كان جواب مريم للملاك. إنّه فعل طاعة: للآب الّذي أرادها أمًّا لإبنه، وللإبن الّذي أراد أن تقبله في حشاها بحبّ، وللرّوح القدس الّذي أراد أن يحقّق فيها التّصميم الإلهيّ.

"ها أنا" قالها يسوع عند دخوله إلى العالم "ها أنا آتٍ لأعمل إرادتك يا الله" (عبرانيّين 10: 7). وهي كلمة تقولها الكنيسة بكلّ أبنائها وبناتها المخلصين لله.

فليجّددها كلّ واحد وواحدة منّا في مختلف مراحل حياته وفي مسؤوليّاته تحقيقًا لإرادة الله وتصميمه الخلاصيّ في العالم، فيتمجّد الثالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."