لبنان
26 أيلول 2022, 05:00

الرّاعي: مجتمعنا اللّبنانيّ يحتاج إلى ثقافة إنجيل المحبّة والأخوّة والعدالة والسّلام

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّاني بعد الصّليب، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في الدّيمان، ألقى خلاله عظة تحت عنوان "ويُكرز بإنجيل الملكوت في المسكونة كلّها... وحينئذٍ تأتي النّهاية" ( متّى 24: 14)، وقال:

"1. عندما كلّم يسوع تلاميذه عن خراب هيكل أورشليم، فهموا أنّ بذلك تكون نهاية العالم ومجيء المسيح الثّاني بالمجد. فسألوه "متى يكون خراب الهيكل وما هي علامة مجيئك ونهاية العالم؟" (راجع متّى 24: 3).  

لم يجبهم يسوع على هذه الأسئلة الثّلاثة، بل نبّههم عن المخاطر والضّيقات والحروب والمجاعات والخيانات والبغض والإنقسامات وجفاف المحبّة في القلوب، وتعليم المضلّلين الّذين سمّاهم "المسحاء الكذبة". ودعاهم إلى الصّمود بالصّبر من أجل الخلاص. وأنهى بالجواب الأساس وهو: "وجوب الكرازة بإنجيل الملكوت في المسكونة كلّها، شهادة لجميع الأمم، وحينئذٍ تكون النّهاية"( متّى 24: 14). ما يعني أنّ العالم بحاجة إلى إنجيل المسيح لكي تنتشر ثقافة المحبّة والأخوّة والسّلام بين جميع الشّعوب. فإنّ الله لا يريد هلاك البشر بل "خلاصهم ومعرفة الحقيقة" (راجع 1 تيموتاوس 2: 4).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة "بمؤسّسة المقدّم المغوار الشّهيد صبحي العاقوري" الّتي أنشأتها زوجته السّيّدة ليا لذكراه وذكرى شهداء الجيش اللّبنانيّ، تحت شعار: "لله رجال، إن هم أرادوا، أراد". نحيّيها مع أولادها الأربعة ومعاونيها. تعنى المؤسّسة كما تعلمون بأطفال شهداء الجيش وعائلاتهم، فتقوم بنشاطات لصالحهم من مثل السّفر إلى الخارج وتنظيم رحلات ومخيّمات ترفيهيّة، ودورات تثقيفيّة وجوقة تراتيل وأغاني هذه الجوقة تحيي هذا القدّاس اليوم، بالإضافة إلى إنشاء حدائق عامّة، وتجهيز قاعات في ثكنات عسكريّة. وأنشأت لها فرعًا في إيطاليا للتّبادل الثّقافيّ والحضاريّ. بارك الله هذه المؤسّسة وحمى جيشنا اللّبنانيّ وسائر الأجهزة العسكريّة، ورحم الله شهداءه، وآسى عائلاتهم، وشملهم بنعمة عنايته الإلهيّة.

3. يدعونا الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم لندرك أنّ المصاعب والمحن في هذه الحياة عابرة، وتقتضي منّا الصّمود بوجهها بالصّبر. فيؤكّد لنا صريحًا: "من يصبر إلى المنتهى يخلص" (متّى 24: 13). لكنّنا نعلم أنّه يعضدنا بنعمته. ويدعونا لنميّزصوته وصوت الكنيسة من أصوات "المسحاء الكذبة" الّذين يضلّون النّاس بتعليمهم المضادّ للإنجيل ولتعليم الكنيسة الّتي هي المؤتمنة وحدها على التّعليم الصّحيح.

4. تمّت نبوءة يسوع عن خراب هيكل أورشليم على يد الرّومان سنة 70. ولم يبقَ منه سوى "حائط المبكى". ولم يعد بإمكان اليهود بناؤه من جديد حتّى يومنا. ذلك أنّه فقد مبرّر وجوده بعد أن قتل يسوع هذا الشّعب ربّ الهيكل. وبالتّالي انتُزعت من اليهود الخدم الثّلاث: النّبوءة والكهنوت والملوكيّة وأُعطيت للكنيسة. أمّا الهيكل الحقيقيّ الّذي يريده الله فهو الإنسان، على ما قال القدّيس إيلاريون أسقف بواتييه "إنّ الرّبّ يسوع يؤكّد بجوابه وجوب هدم كلّ شيء في الهيكل وتدمير حجارة الأساسات وبعثرتها، لأنّ هيكلًا أبديًّا سيكرّس للرّوح القدس، وهذا الهيكل الأبديّ هو الإنسان الّذي يستحقّ أن يكون سكنى الله".

5. مجتمعنا اللّبنانيّ يحتاج إلى ثقافة الإنجيل، إنجيل المحبّة والأخوّة والعدالة والسّلام، إنجيل قدسيّة الحياة البشريّة وكرامتها، إنجيل النّور لهداية ضمائر المسؤولين عندنا. فنتساءل: بأيّ راحة ضمير، ونحن في نهاية الشّهرِ الأوّل من المهلةِ الدّستوريّةِ لانتخابِ رئيسٍ للجمهوريّة، والمجلسُ النّيابيُّ لم يُدعَ بعدُ إلى إيِر جلسةٍ لانتخابِ رئيسٍ جديد، فيما العالمُ يَشهدُ تطوراتٍ هامّةً وطلائعَ موازينِ قوى جديدةٍ من شأنها أن تؤثّرَ على المنطقةِ ولبنان؟ صحيحٌ أنَّ التّوافقَ الدّاخليَّ على رئيسٍ فكرةٌ حميدةٌ، لكنَّ الأولويّةَ تبقى للآليّةِ الدّيمقراطيّةِ واحترامِ المواعيد، إذ إنَّ انتظارَ التّوافقِ سيفٌ ذو حدّين، خصوصًا أنَّ معالمَ هذا التّوافقِ لم تَلُح بعد. إنَّ انتخابَ الرّئيس شرطٌ حيويٌّ لتبقى الجُمهوريّةُ ولا تَنزلِقَ في واقعِ التّفتّتِ الّذي أَلمَّ بدول محيطة. لا يُوجد ألفُ طريقٍ للخلاص الوطنيّ والمحافظةِ على وِحدةِ لبنان بل طريق واحد، هو انتخاب رئيس للجمهوريّةِ بالاقتراعِ لا بالاجتهادِ، وبدونِ التفافٍ على هذا الاستحقاقِ المصيريّ. إنّ الدّساتيرَ وُضِعَت لانتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة، لا لإحداثِ شغورٍ رئاسيٍّ. فهل الشّغورُ صار عندنا استحقاقًا دستوريًّا، لا الانتخاب؟

6. لبنان يحتاج اليوم لكي ينهض حيًّا إلى حكومةٍ جديدة تخرج عن معادلة الانقسام السّياسيّ القديم بين 8 و14 آذار، وتمثّل الحالة الشّعبيّة الّتي برزت مع انتفاضة 17 تشرين، ومع التّنوّع البرلمانيّ الّذي أفرزته الانتخابات النّيابيّة 15 أيّار الماضي. إنّ الظّروف تتطلّب حكومة وطنيّةً سياديّةً جامعةً تَحظى بصفةٍ تمثيليّةٍ تُوفّرُ لها القدرةَ على ضَمانِ وِحدةِ البلادِ، والنّهوض الاقتصاديّ، وإجراء الإصلاحات المطلوبة. فلا يمكن والحالة هذه أن تبقى الحكومةُ حكومةً فئويّةً يَقتصر التّمثيلُ فيها على محورٍ سياسيٍّ يتواصلُ مع محورٍ إقليميٍّ. ولا تستقيم الدّولة مع بقاء حكومة مستقيلة، ولا مع حكومة مرمّمة، ولا مع شغور رئاسيّ، لأنّ ذلك جريمة سياسيّة وطنيّة وكيانيّة.

7. إنّ أيّ سعي لتعطيل الاستحقاق الرّئاسيّ إنّما يَهدِفُ إلى إسقاطِ الجُمهوريّةِ مِن جهةٍ، ومن جهة أُخرى إقصاءِ الدّورِ المسيحيِّ، والمارونيِّ تحديدًا عن السّلطةِ من جهةٍ أخرى، فيما نحن آباءُ هذه الجُمهوريّةِ ورُوّادُ الشّراكةِ الوطنيّةِ. لذا، إذا كان طبيعيًّا من النّاحيةِ الدّستوريّةِ أن تملأَ حكومةٌ مكتملةُ الصّلاحيّات الشّغورَ الرّئاسيّ، فليس طبيعيًّا على الإطلاق ألَّا يَحصُلَ الاستحقاقُ الرّئاسيُّ، وألّا تنتقلَ السّلطةُ من رئيسٍ إلى رئيس. وليس طبيعيًّا كذلك أن يُمنعَ كلَّ مرّةٍ انتخابُ رئيسٍ لكي تَنتقلَ صلاحيّاتُه كلَّ مرّةٍ إلى مجلس الوزراء. فهل أصبح الاستحقاقُ الرّئاسيُّ لزومَ ما لا يَلزَمُ؟ لا، بل هو واجبُ الوجوبِ لئلّا ندخلَ في مغامراتٍ صارت خلفَ الأبواب.  

8. لماذا يفضّلُ البعضُ تسليمَ البلادِ إلى حكومةٍ مستقيلةٍ أو مُرمَّمةٍ على انتخابِ رئيسٍ جديدٍ قادرٍ على قيادةِ البلادِ بالأصالة؟ ألا يعني هذا أنَّ هناك من يريد تغييرَ النّظامِ والدّستورِ، وخلقَ تنافسٍ مصطَنعٍ بين رئاسة الُجمهوريّةِ ورئاسة الحكومةِ، فيما المشكلةُ هي في مكانٍ آخر وبين أطرافٍ آخَرين؟ ونسأل: مَن يستطيع أن يُقدِّمَ سببًا موجِبًا واحدًا لعدمِ انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة؟

ألم تَجرِ الانتخاباتُ النّيابيّةُ منذ أشهرٍ قليلةٍ وفاز نوّابٌ متأهِّبين لانتخابِ رئيس؟  

ألا يوجد حَشدٌ من المرشّحين ينتمون إلى كلِّ الاتّجاهاتِ والمواصفات؟  

ألا تَستلزمُ الحياةُ الدّستوريّةُ والميثاقيّةُ والوطنيّةُ انتخابَ رئيسٍ يَستكملُ بُنيةَ النّظامِ الدّيمقراطِّيّ؟  

ألا يَستدعي إنقاذُ لبنان وجودَ رئيسٍ جديدٍ يُحي العلاقاتِ الجيّدةَ مع الدّولِ الشّقيقةِ والصّديقةِ والمنظّمّاتِ الدّوليّة؟

ألا يَستوجِب التّفاوضُ مع المجتمعِ الدُوَليِّ وعقدُ اتّفاقاتٍ ثنائيّةٍ أو جماعيّةٍ انتخابَ رئيس؟  

ألا تقتضي الأصولُ أن يُلبّيَ لبنان نداءاتِ قادةِ العالم لانتخابِ رئيسٍ يقودُ المصالحةَ الوطنيّة، ويرمّم وحدة البلاد؟

ألا يحتملُ أن يؤدّيَ عدمُ انتخابِ رئيسٍ إلى أخطارٍ أمنيّةٍ واضطراباتٍ سياسيّةٍ وشللٍ دستوريّ؟

9. تمارسُ قوى سياسيّةٌ هذا الأَداءَ التّدميريَّ على صعيدَي تشكيلِ الحكومةِ وانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهورية، فيما أمْست المآسي خبزَ اللّبنانيّين اليوميّ. لقد هَالَنا غرقُ عشراتِ الأشخاصِ في البحرِ، وهُم يَستقلّون زوارقَ غيرَ صالحةٍ لعبورِ البحار مسافاتٍ طويلة. لكنَّ سوءَ الأحوالِ دَفع بهم إلى الهرب والهِجرةِ بأيِّ ثمن. إنَّ البحثَ عن الحياة يؤدّي أحيانًا إلى الموت. والأخطرُ من ذلك أنّ مأساةَ الأمس ليست الأولى، فأين الإجراءاتُ الأمنيّةُ الرّادعةُ الّتي اتّخذَتها الدّولةُ لمنعِ انطلاقِ زوارق الموت؟ الدّولة مسؤولة عن هذه المآسي لتقاعصها عن إنهاض البلاد من الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة. إنّا معكم نعرب عن تعازينا القلبيّة لعائلات الضّحايا، ونسأل الله أن يعزّي قلوبهم بوافر رحمته.

10. ونرى من جهةٍ أخرى بعضَ المودعين يقومون بعمليّاتٍ لاستعادةِ أموالهم مباشرةً وبالقوّة لأنَّ الدّولةَ أهملَت المودعين وتخلّت عن مسؤوليّاتها في استثمار مواردها وتغطية ديونها وإفراج شعبها، ولأنَّ المصارفَ تمادت في تقنينِ إعطاءِ المودِعين الحدَّ الأدنى من حقوقِهم، وبات المواطنون ضحيّةَ تقاذف المسؤوليّة بين الدّولةِ والمصارف. إنَّ السّلطاتِ السّياسيّةَ والأمنيّةَ مدعوّةٌ بالمقابل إلى توفيرِ الحمايةِ للمصارف لتعودَ وتستأنفَ عملَها، لأنَّ إغلاقها عملٌ غيرُ جائز. فالمصارفُ ليست مُلكَ أصحابِها فقط، بل هي مُلكَ المودِعين والنّاس والحركةِ التّجاريّةِ والاقتصاديّة أيضًا. لكنّها تحتاج إلى حماية أمنيّة لكي تؤدّي دورها الحيويّ في البلاد؟

أيّها الاخوة والأخوات،

11. إنّنا بالرّجاء نرفع صلاتنا إلى الله لكي ينير الضّمائر والقلوب بنور الإنجيل، من أجل العيش بسكينة وهدوء وسلام. له المجد والشّكر إلى الأبد. آمين".