الرّاعي مدشّنًا دير مار شربل في فرنسا: نكرّس اليوم مدرسة صمت ومحبّة وحياة داخليّة
وبعد الإنجيل القدّس، ألقى الرّاعي عظة قال فيها: "اليوم هو يوم نور وصمت، يوم تتويج وانطلاقة. إنّنا اليوم جدّ مسرورين بترؤّسنا هذا الاحتفال اللّيتورجيّ الـمهيب في تدشين دير مار شربل الجديد للرّهبانية اللّبنانيّة المارونيّة المباركة، والممثّلة هنا على أفضل وجه من قبل رئيسها العامّ الأباتي هادي محفوظ السّامي الاحترام. ونشعر بتأثّر عميق ونحن نرى كيف تتواصل، بطرق مختلفة ومتكاملة، في هذا المزار الجديد المكرّس للقدّيس شربل، الرّسالة الرّوحيّة الأولى لدير راهبات مريم- يوسف والرّحمة، ممثّلين اليوم أحسن تمثيل برئيستهنّ العامّة الأخت فيرونيك لوييه Véronique Leouillet.إنّ التعاون العريق والمتعدّد الأبعاد بين كنيسة فرنسا والكنيسة المارونيّة في لبنان يلقي بمرساته في تاريخ طويل ومتشعّب، يمتدّ على قرون متتالية، منذ القرن الثّاني عشر حتّى أيّامنا هذه. وهذه العلاقات المتواصلة، الممهورة بالصّداقة والمودّة والتحابّ والتّضامن والتّعاطف، تظهر ببلاغة مدى ارتباط الكنيسة المارونيّة في لبنان بفرنسا: وطنًا وكنيسةً وقيمًا. وهل من الجائز أن ننسى كيف بيروت، مرضعة الشّرائع، وباريس حاضنة حقوق الإنسان، حاكتا سويًا أعظم "مؤامرة" للدّيمقراطيّة والحرّيّة في الشّرق الأوسط؟
نغتنم هذه المناسبة الجميلة لنوجّه أحرّ شكرنا إلى الأخوات العزيزات من رهبنة مريم-يوسف والرّحمة على اهتمامهنّ الكبير بمشروع دير مار شربل، الّذي صمّمته الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة بحماسة رسوليّة وبغيرة روحيّة متّقدة. لا نغالي البتّة إن دعونا الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة النّار المقدّسة في كنيستنا ومشتل القدّيسين، منذ أكثر من ثلاثمئة وثلاثين عامًا. كما لا بدّ أن نحيّي الجهود الجديرة بالثّناء الّتي بذلتها السّيّدة باسكال فيرنيه Pascale Vernet، عضو محكمة التّحكيم في البناء ومرافقة المشاريع، الّتي أوصلت هذا المشروع إلى غايته بفرح ومحبّة، وكان للجوئها إلى شفاعة القدّيس شربل في محنتها الصّحّيّة الصّعبة، علامة واضحة على تدخّل العناية الإلهيّة في هذا المخطّط الروّحيّ.
نحن مجتمعون هنا لا لنتأمل فقط الجدران الحجريّة القائمة أمامنا، بل لنحتفل ببناء مزار حيّ تحت شفاعة القدّيس شربل- مكان ينسحب فيه الإنسان من ضجيج العالم، لا ليهرب، بل ليصغي. ومن المفيد أن نذكّر بأنّ القدّيس شربل، الّذي طوّبه البابا القدّيس بولس السّادس عام 1965 وقدّسه عام 1977، يعتبر اليوم من أعظم مجترحي العجائب في الكنيسة الكاثوليكيّة. ففي لغز صمته الأسطوريّ، عرف كيف يذوّب ذاته في الذّات الإلهيّة، واجتاح العالم بأسره. وهنا أراني مندفعا تلقائيًّا إلى إيجاز الخطوط العريضة في الخطاب التّاريخيّ للبابا القدّيس بولس السّادس في تطويب مار شربل في ختام المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. يشدّد قداسته على أنّ راهب عنّايا يجيب بصمته على تساؤل العديد من المؤمنين: ما على الكنيسة أن تفعله لاستعجال مجيء الملكوت. يقول قداسته ما معناه أنّه يبدو مناسبًا أن يذكّرنا شربل مخلوف، الّذي أتقن فنّ الغوص في التّأمّل، بالحاجة الملحّة إلى الصّلاة والصّمت والفضائل المخفيّة والنّسك، في عالم يهيمن عليه الضّجيج والصّخب والضّوضاء الإعلاميّة والنّزعة الاستهلاكيّة والتّفتيش العنيد عن الرّفاهيّة القاتلة (انتهى الإيجاز).
وكذلك، قبل ألفين وستمئة عام، كان فيثاغورس، في أغلب الظّنّ من أصل فينيقيّ، يتحدّث عن السّيمفونيّة الكونيّة الصّادرة عن الكواكب، لكنّه ما يلبث أن يستتبع قوله هذا بالإشارة إلى أن أحدًا لم يعد يسمعها، لأنّ النّاس فقدوا القدرة على الصّمت. وفي السّياق ذاته، جاء فيلسوف ألمانيّ في القرن العشرين، مشبع بالكتاب المقدّس، ليؤكّد هذه الفكرة بصيغة وجوديّة بليغة: "أنا أصغي فإذًا أنا أتحوّل".
إنّ هذا الدّير الّذي ندشّنه اليوم ليس مجرّد بناء بشريّ. إنّه فلك صلاة، ونبع سلام، وواحة صمت وتأمّل، وبيت لله في وسط المجتمع. وكما قال القدّيس بندكتس في قانونه: "ليكن الدّير مدرسة نتعلّم فيها خدمة الرّبّ". وهكذا نحن نكرّس اليوم مدرسة صمت، مدرسة محبّة، مدرسة حياة داخليّة.
في هذا العالم العطش للضّجيج، المغمور بالاضطراب والتّشتّت، ما أجمل أن يوجد مكان للتّأمّل، للّقاء بالذّات، وللسّموّ والتّعالي. وقد كتب الفيلسوف المسيحيّ غوستاف تيبون Gustave Thibon:"الصّمت عتبة، الصّمت هو ذاك المكان السّرّيّ حيث ينتظر الله الإنسان". هنا، في هذا الدّير، كلّ حجر يحمل بصمة صلاة، وكل جدار سيرنّم بالتّسبيح المقدّس، وكلّ قليّة ستؤوي قلبًا، مضطربًا، هائمًا، يبحث عن الله ليرتاح فيه، ويعطي معنىً للحياة، للآلام، للأفراح، للمخاوف وللموت.
وأنتم الّذين ستسكنون هنا وتصلّون وتسهرون: تذكّروا أنّ هذا المكان ليس ملككم، بل هو ملك من دعاكم إلى اتّباعه، وأنتم وكلاؤه. لتكن حياتكم شهادة حيّة للملكوت. وأمّا الّذين سيأتون من الخارج، يقرعون الباب بحثًا عن تعزية أو نور أو مجرّد صمت- فافتحوا قلوبكم لهم، لأنّ هذا الدّير، كما سائر الأديرة في الكنيسة الفرنسيّة المباركة، هو منارة للأرواح التّائهة في بحر الحياة.
وكما قالت الأمّ تريزا: "ثمرة الصّمت هي الصّلاة، ثمرة الصّلاة هي الإيمان، ثمرة الإيمان هي المحبّة، وثمرة المحبّة هي الخدمة." هذا المكان مدعوّ إذًا لأن يصبح نارًا وديعة ولكن قويّة، تدفئ المجتمع الّذي تحتضنه، من دون ضجيج. فالإنجيل لا يصرخ، بل يهمس. لا يفرض، بل يعرض.
ختامًا، ننتهزّ هذه المناسبة المباركة لنوجّه أحرّ التّهاني إلى قدس الأب العامّ هادي محفوظ السّامي الاحترام ومجمع المدبّرين الأفاضل وجميع أعضاء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الأحبّاء في لبنان وفي أصقاع الأرض، على هذا الإنجاز العظيم في خدمة البشارة على أرض فرنسا السّخيّة المضيافة، "أمنا الحنون". إنّنا نصعّد إلى الله ابتهالاتنا لكي يبقى دير مار شربل في فيلييه-سور- مارن، في محافظة فال- دو- مارن- وفي مقاطعة إيل دو فرانس، مزدهرًا أبدًا بعمل الرّوح القدس. وليكن على الدّوام تعزيةً للنّفوس، ومكان توبة للقلوب، وقطعةً من السّماء على الأرض. آمين!".