لبنان
08 تشرين الثاني 2021, 12:15

الرّاعي مفتتحًا الدّورة الـ54 لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان: خلاصنا في العودة إلى ثوابتنا الوطنيّة

تيلي لوميار/ نورسات
إفتتح البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي الدّورة الرّابعة والخمسين لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، المنعقدة في بكركي لغاية الثّالث عشر من الجاري، وألقى كلمة للمناسبة قال فيها:

"إخواني أصحاب الغبطة البطاركة الكُلّيّي الطّوبى،

السّادة المطارنة الأجلّاء،

حضرة المونسنيور القائم بأعمال السّفارة البابويّة،

قدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات والإقليميّين والإقليميّات،

الآباء المحترمين الأعزّاء.

1. يسعدني أن أفتتح معكم دورة مجلسنا الرّابعة والخمسين، ونضع أعمالها تحت أنوار الرّوح القدس، وشفاعة أمّنا مريم العذراء، أمّ المشورة الصّالحة، راجين لها أفضل الثّمار.  

ويطيب لي أن أرحّب باسمكم وباسمي بصاحب الغبطة رفائيل بدروس الحادي والعشرين كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك بانتخابه "أبًا ورأسًا" للكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة الشّقيقة. ونقدّم له أطيب التّهاني والتّمنّيات. وقد آلمتنا وفاة سلفه المثلّث الرّحمة البطريرك كريكور بدروس العشرين، الّذي كان عضوًا فاعلًا ودؤوبًا في مجلسنا، ووفاة المثلّث الرّحمة المطران بطرس الجميّل، رئيس أساقفة قبرص سابقًا وكان هو أيضًا عضوًا في مجلسنا. فلنصلِّ الأبانا والسّلام لراحة نفسيهما في الملكوت السّماويّ.

ويطيب لي أن أرحّب معكم بعضوين جديدين آخرين هما: قدس الأباتي بيار نجم الرّئيس العامّ للرّهبانيّة المارونيّة المريميّة، وقدس الأرشمندريت برنار توما الرّئيس العامّ للرّهبانيّة الباسيليّة الشّويريّة.

2. "رؤية الكنيسة الوطنيّة، ورسالتها التّربويّة": هما موضوع دورتنا، بالإضافة إلى "المراحل الإعداديّة لسينودس الأساقفة: نحو كنيسة سينودسيّة: شركة ومشاركة ورسالة"، وإلى "انعقاد الجمعيّة العموميّة السّنويّة العاديّة الثّانية لرابطة كاريتاس لبنان"، الّتي تقتضي حضور أعضاء المجلس كونها منبثقة عنه، فإلى "إجراء انتخابات إداريّة في لجان المجلس".

أوّلًا: رؤية الكنيسة الوطنيّة

3. هذا الموضوع تمليه على مجلسنا الظّروف الرّاهنة. نشأ لبنان سنة 1920 ليكون وطن الإنسان المزيّن بالحرّيّة والكرامة، ووطن التّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة، ووطن العيش معًا مسيحيّين ومسلمين بالاحترام المتبادل والمساواة والتّعاون المتوازن في إدارة الدّولة، ووطن الانفتاح على جميع الدّول بميزة الحياد الملتزم بقضايا الاستقرار والعدالة والسّلام وحقوق الإنسان في بيئته العربيّة، والمتحرّر من الأحلاف والنّزاعات والحروب الإقليميّة والدّوليّة. وبهذه الميزات أعلنته مقدّمة الدّستور "وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه" (عدد أ). ولكنّه لم يترافق بولاء نهائيّ.

عندما نلقي نظرة على واقعنا نشهد أنّنا نبتعد شيئًا فشيئًا عن هوّيتنا هذه. هذا الابتعاد المتواصل، من دون معالجة، أوقعنا في الأزمة السّياسيّة الحادّة الّتي تسبّبت وتتسبّب بالأزمات الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والاجتماعيّة، كما وبسوء علاقات لبنان مع محيطه العربيّ.

4. خلاصنا في العودة إلى ثوابتنا الوطنيّة، وهي ثلاثة:

أ- العيش المشترك

هو مشروع حضاريّ قائم على الانتماء إلى الوطن بالمواطنة لا بالدّين. ما يعني أنّ ميزة لبنان كما عبّر عنها المكرّم البطريرك الياس الحويّك في مؤتمر السّلام بفرساي في فرنسا (1919) كونُه دولةً "تحُلّ الوطنيّة السّياسيّة محلّ الوطنيّة الدّينيّة". هذا هو أساس الفصل بين الدّين والدّولة في لبنان، وأساس تكوين الدّولة اللّبنانيّة على الحرّيّة، والمساواة في المشاركة، وحفظ التّعدّديّة الّتي هي بمثابة القلب للبنان.

ب- الميثاق الوطنيّ

وضعه منجزو الاستقلال سنة 1943 على قاعدة "لا شرق ولا غرب"، لتكون الأساس لدولةٍ تحقّق أماني اللّبنانيّين جميعًا، وتبعدهم عن المحاور والصّراعات، وعن الإنشداد إلى اعتبارات تتخطّى الكيان اللّبنانيّ ودولته. وهذه القاعدة كانت الأساس لبناء علاقات الدّولة مع الخارج.

ج- الصّيغة

هي التّطبيق العمليّ للميثاق، وتنظّم المشاركة الفعليّة بين المكوّنات اللّبنانيّة في النّظام السّياسيّ، وتحقّقها. أتت هذه الصّيغة لتعكس التّجربة التّاريخيّة الّتي أثبتت أنّ لبنان لا يقوم إلّا بجناحيه المسيحيّ والمسلم. ولذا لم تقم يومًا على مقاييس العدد.

باب الحلّ

5. إنّ الظّرف الصّعب والدّقيق الّذي يعيشه لبنان والمنطقة يوجب على اللّبنانيّين أن يستلهموا هذه الثّوابت الوطنيّة الثّلاث في حياتهم الوطنيّة وخياراتهم السّياسيّة، وأن يبنوا دولة عادلة وقادرة ومنتجة. دولة لا تتيح لأيّ فريق فرض خياراته على الآخرين، والاستقواء بالخارج، وتعطيل المؤسّسات الدّستوريّة، ورهنها بخيارات يدّعي أصحابها بأنّها هي المحقّة والمنجّية.

ويبقى الحياد الإيجابيّ الفاعل هو أنجع الطّرق للحفاظ على التّعدّديّة، والارتكاز على قوّته الدّفاعيّة بدعم الجيش وسائر القوى الأمنيّة، والالتزام بقضايا الأسرة العربيّة، وبخاصّة القضيّة الفلسطينيّة، وتلك المتعلّقة بالعدالة والعيش معًا والتّنوّع في الوحدة، وحقوق المواطنة، وبناء السّلام.

6. بسبب الابتعاد على هذه الثّوابت الوطنيّة ومستلزماتها تعطّلت الحكومة في أدقّ ظرف من الحاجة إليها. ولا نستبعد أن يكونَ هدفُ الّذين يُعطِّلون المؤسّساتِ الدّستوريّةَ هو ضربُ وِحدةِ لبنان، وتعطيلُ السَنةِ الأخيرةِ من العهد، وتَفكيكُ الدّولة، والتّمرّدُ عليها، والاستيلاءُ على قراراتِها، والانفصالُ عنها، وقلبُ الحقائق، وقطعُ علاقاتِها عن أشقائِها وأصدقائِها، وإلقاءُ التُّهمِ باطلًا على الّذين لا يزالون في كنفِ الدّولةِ والشّرعيّة.

قَدَرُ المؤمنين بكيانِ لبنان وهُويّتِه الوطنيّةِ ورسالتِه التّاريخيّةِ أن يواجِهوا هذا الانحرافَ بكلِّ الوسائل الّتي يُتيحُها الدّستورُ والقوانين، وهي كثيرةٌ وفعّالة، إذا أُحْسِن استعمالُها وإذا اتّحدَت القوى الوطنيّةُ حولَ برنامجِ إنقاذ. المعارضاتُ المبعثرةُ والأنانيّاتُ المنتشِرةُ لا تَصنع قوّةَ نضالٍ سياسيٍّ، ولا تَفرِزُ حركةَ تغييرٍ في المجتمع. فالتّغييرُ يَحصُلَ في صناديقِ الاقتراع لا في الشّارع. ولا يمكن السّماح بإفقار الشّعبِ اللّبنانيَّ بالقوّة، وتقسيمه بالقوّة أيضًا، وهو الّذي اختار وِحدةَ الكيانِ والحياة.

ثانيًا، رؤية الكنيسة التّربويّة

7. لا أحد يجهل أنّ التّربية واجب على الكنيسة بحكم رسالتها الّتي أوكلها إليها مؤسّسها المسيح الرّبّ: "إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم... وعلّموهم" (متّى 28: 19-20). فأسّست لهذه الغاية مدارسها لتعنى بتربية الشّخص البشريّ بكلّ أبعاده: تُنضج طاقاته الفكريّة والتّمييزيّة، وتنقل إليه التّراث الثّقافيّ والرّوحيّ والاجتماعيّ والوطنيّ، وتعزّز لديه حسّ القيم، وتهيّء حياته المهنيّة، وتنمّي علاقات الصّداقة والحوار والتّعاون مع أترابه المختلفين عنه بأوضاعهم الاجتماعيّة ودينهم وعرقهم (الإعلان المجمعيّ في التّربية المسيحيّة، مقدّمة وفقرة 5).

والكلّ يعلم أيضًا أنّه عندما نقول "مدرسة" نعني طلّابًا ووالدين وإدارة وهيئة تعليميّة. وعندما نقول "تربية" نعني أيضًا رعيّة ومجتمعًا مدنيًّا ودولة. ولكلّ واحد وفئة دوره وواجباته في العمليّة التّربويّة.

8. لكنّ المدرسة عامّة والكاثوليكيّة خاصّة ومنها المجّانيّة تواجه صعوبات جمّة متنوّعة تهدّد حضورها واستمراريّتها ورسالتها. أولى هذه الصّعوبات ماليّة بسبب الأزمة الاقتصاديّة والماليّة الخانقة. فالأهل يفتقرون يومًا بعد يوم، ويعجزون عن تسديد أقساط أولادهم. والمدرسة تتحمّل الخسائر والدّيون لكي لا تقفل أبوابها وتهمل رسالتها، علمًا أنّ بعضها أُرغم على الإقفال. ثاني الصّعوبات إهمال الدّولة وتنصّلها من أيّ مسؤوليّة تجاه المدرسة الخاصّة، بل ترهقها بعدم دفع مستحقّاتها وبقوانينها وضرائبها، ولا تمدّ يد المساعدة للمعلّمين وللطّلّاب من أجل التّخفيف من أعبائهم. وثالث الصّعوبات مادّيّة ولاسيّما لجهة غلاء المحروقات وعدم دعمها. فالأساتذة ووسائل نقل الطّلّاب يعانون من عبئها الثّقيل والمرهق. وكذلك المدارس الجبليّة الّتي تحتاج إلى تدفئة طلّابها. ورابع الصّعوبات تدمير الأخلاق وإفسادها بفساد مسؤولين سياسيّين ومجتمع ووسائل إعلام واتّصال. فتعاني المدرسة والأهل من نتائج هذا التّدمير.

9. من أجل تذليل هذه الصّعوبات تحتاج المدرسة الكاثوليكيّة إلى دعم ومساعدة من الدّولة والمجتمع الدّاخليّ والخارجيّ، لكي، على ما كتب القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في إرشاده الرّسوليّ "رجاء جديد للبنان" (10 أيّار 1997): ""تصون المدرسة تقليد الكنيسة التّربويّ، وتلبّي دعوتها كمربّية الأشخاص والشّعوب، وتوفّر تعليمًا نوعيًّا، وتتابع خدمتها للأجيال الطّالعة المحتاجة إلى الأسس الثّقافيّة والرّوحيّة والخلقيّة، فتجعل منهم مسيحيّين ناشطين، وشهودًا للإنجيل، ومواطنين مسؤولين، وتُبقي ذاتها في متناول الجميع، وبالأخصّ أفقرهم حالًا، فيتمكّنوا من الحصول على تنشئة أساسيّة ضروريّة للحياة المجتمعيّة وللثّقافة" (فقرة 106 و107).

خاتمة  

10. بارك الله أعمالنا بنعمته وبأنوار روحه القدّوس، لمجده تعالى وازدهار المدرسة الكاثوليكيّة، وخير المجتمع والوطن."