الرّاعي من حريصا: المحبّة الصّادقة وحدها قادرة على شفاء الانقسامات
"1. يترك لنا الرّبّ يسوع، كربّ عائلة، وصيّته الأخيرة، وهي وصيّة المحبّة. هذه المحبّة ليست مجرّد محبّة بشريّة محدودة بالمصلحة أو المزاج، أو العاطفة، بل هي محبّة إلهيّة، مصدرها قلب الله. وهي وصيّة لا تقتصر على النّوايا أو العواطف، بل تطال الخيارات اليوميّة، وطريقة التّعامل مع بعضنا بعضًا، في العائلة والكنيسة والمجتمع والوطن. وهي وصيّة جديدة بالنّسبة إلى القديمة القائلة أن "نحبّ قريبنا كنفسنا"، بحيث تصبح قاعدتها محبّة المسيح لنا، مثلما عاشها على أرضنا، أيّ أن نحبّ بتفانٍ وغفران وبذل ذات، بمحبّة لا تتراجع أمام الإساءة، ولا تتعب ولا تتوقّف. إنّ محبّة المسيح هي القاعدة الّتي تُبنى عليها كلّ جماعة مسيحيّة حقيقيّة، سواء في العائلة أم في الأخويّة أم في الوطن.
2. تلتقي اليوم الأخويّات الأمّ في مزار سيّدة لبنان حريصا، في ختام الشّهر المريميّ، وأتيتم من مختلف رعايا وبلدات لبنان، فترتفع صلاتكم وصلاتنا، وتتوحّد قلوبنا في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة. جئتم إلى هذا المزار الوطنيّ بل العالميّ، لتجدّدوا الولاء لمريم العذراء، أمّنا السّماويّة. جئنا معًا لنصلّي من أجل الاستقرار، ومن أجل أن نكون علامة وحدة لا انقسامًا، ونكون جسور تواصل لا جدرانًا، وأصوات محبّة لا تنافسًا، وخميرة بناء لا نقمة، ونور رجاء لا يأسًا.
3. لستم، أيّتها الأخويّات، مجرّد جمعيّات تطوّعيّة في الرّعيّة، بل أنتم نسيج حيّ في قلب الكنيسة. أنتم بالمعموديّة والالتزام شهود أحياء للمسيح في جماعاتكم الخاصّة وفي الرّعيّة، وخدّام على مثاله. أنتم مدعوّون لتكونوا "الخميرة الصّالحة في العجين"، الّتي تغيّر بدون أن تظهر، وتخدم من دون أن تتباهى.
4. يحمل لقاء الأخويّات هذا بعدًا نبويًّا من إنجيل اليوم: "أحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم" (يو 13: 34). لأنّ هذه ليست فقط وصيّة روحيّة، بل دعوة عمليّة لبناء الإنسان والمجتمع والوطن. في هذه الكلمة، يعيد الرّبّ يسوع صياغة مقياس المحبّة: لم تعد المحبّة مجرّد عاطفة، بل أصبحت فعل بذل، مثلما بذل هو نفسه حتّى الموت حبًّا بنا.
في ظلّ ما يمرّ به وطننا لبنان من أزمات متكرّرة اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وماليّة، تأتي هذه الوصيّة لتكون صرخة رجاء وتجدّد. فالمحبّة الصّادقة وحدها قادرة على شفاء الانقسامات، وردم الهويّات، وإعادة بناء الثّقة بين أبناء الوطن الواحد.
المحبّة الّتي يدعونا إليها الرّبّ يسوع ليست حبًّا نظريًّا أو محدودًا بالمشاعر، بل هي التزام، واحتمال، ومصالحة، وعدالة، وتضحية من أجل الآخر، لاسيّما من هو في حاجة أو في ضيق.
المحبّة الّتي ينادي بها بولس الرّسول "محبّة تتأنّى وترفق... تتحمّل كلّ شيء، تصدّق كلّ شيء، ترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء" (1 كو 13: 4-7).
5. أيّها الأخويّات، وأيّها الإخوة والأخوات المسيحيّون، أنتم مدعّوّون بحكم معموديّتكم لتكونوا هذه المحبّة، ويدها الفاعلة في الرّعايا، في العائلات، في الشّأن العامّ. إنّ التزامكم ليس فقط داخل جدران الكنيسة، بل في قلب المجتمع. فلبنان بحاجة إلى رجال ونساء يؤمنون بثقافة المحبّة: ثقافة الحياة لا ثقافة الإلغاء، ثقافة الحوار لا ثقافة النّزاعات، ثقافة الخدمة لا ثقافة المنفعة.
6. وصيّة المحبّة لا تطال فقط فئة من المواطنين، بل المواطنين جميعهم، لأنّها وصيّة عامّة وخاصّة في آن: عامّة لجميع النّاس، وخاصّة بكلّ واحد منهم. آن الأوان لأن يوحّد السّياسيّون كلمتهم في الشّأن العامّ، في مجتمع متعدّد الثّقافات والأديان والأحزاب. على سبيل المثال، نتائج الانتخابات البلديّة والاختياريّة، كان ينبغي أن تكون مدّ يد التّعاون إلى الخاسرين ديمقراطيًّا، لا مظاهر ربح ورقص وأسهم ناريّة. فهذه تزيد من التّشنّج في البلدة الواحدة بين أهلها، وتولّد النّزاعات، وتجرح الوحدة، وتخلق العداوة. فالمحبّة توحي وتعلّم عكس ذلك.
7. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، بتشفّع أمّنا السّماويّة مريم العذراء، سيّدة لبنان، قائلين أعطنا النّعمة يا ربّ لكي "نحبّ بعضنا بعضًا كما أحببتنا". علّم قادة الوطن أن يتخلّوا عن مصالحهم الضّيّقة من أجل خير الشّعب. أعطنا أن نبني وطننا على المحبّة لا الحقد، على التّضامن لا على التّسلّط، لك المجد والشّكر، أيّها الآب والإبن والرّوح القدس من الآن وإلى الأبد، آمين."