الراعي: نحتاج إلى "تغيير في الذهنيات"، وإلى تجدّد روحي وأخلاقي وإنساني لدى العاملين في خدمة الخير العام
1. عندما سمع تلميذا يوحنا شهادته عن يسوع أنّه "حمل الله"، اجتذبهما شخص يسوع، فتبعاه بعفويّة. ولما سألهما: "ماذا تريدان؟" وأجابا: "يا معلِّم أين تقيم؟" قال لهما: "تعاليا وانظرا" (يو1: 39). فذهبا وأقاما معه النهار كلّه. فاكتشفا أنّه هو المسيح المنتظر الذي تكلّم عنه الأنبياء. وعادا متجدِّدَين وشاهدَين يخبران عنه. هذا هو سرّ اللِّقاء بيسوع. نسمع عنه، نتبع خطاه، نختبر نعمة حضوره، نتجدَّد في الرؤية والمعرفة، فنخبر عنه بالكلام والأفعال.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن أرحّب بكم جميعًا. وأحيِّي بشكل خاصّ أهل المرحوم إيلي مرهج، ابن الاثنتَين والخمسين سنة من العمر، الذي سقط ميتًا أمام مذبح كنيسة مار يوحنا مرقس-جبيل ليلة عيد الميلاد، في ختام ريسيتال ميلادي أحياه مع جوقته التي تخدم هذا القداس اليوم لراحة نفسه. فكانت وفاتُه، بالنسبة إلينا نحن المؤمنين، ميلادَه في السماء، مع ذكرى ميلاد ابن الله على أرضنا. المرحوم إيلي مرهج، ابنُ بنتاعل وسكان سدّ البوشرية ورعية مار مارون، التي أعطاها من كلّ قلبه وقواه. واعتنى بجوقتها منذ سنة 1989، مطوِّرًا إياها، حتى احتلّت مكانة مرموقة بين كبار الجوقات، وقد تخصّص في الموسيقى في جامعة الروح القدس. ولبّى مع جوقته العديد من الدعوات لإحياء احتفالات ليتورجيّة. وقام بنشاطات متعدِّدة في خدمة المحبة من خلال جمعيّات ومؤسّسات انتسب إليها وتطوّع فيها. إنّنا إذ نصلّي لراحة نفسه بين الأجواق السماويّة، نلتمس العزاء لوالدته وأشقّائه وجوقته وأنسبائه.
إنّ ظرف وفاة العزيز إيلي تعيد إلى ذاكرتنا وفاة العزيزة ريتا كميد الّتي وقعت ميتة أمام مذبح كاتدرائيّة مار جرجس في بيروت، قبل عيد الميلاد بأسبوع من سنة 2009 فيما كانت تحيي مع جوقة جامعة سيدة اللوزة افتتاح مهرجان "بيروت ترنم"، ويصادف اليوم وجود والديها وشقيقها معنا. فنحيّيهم ونذكر بالصّلاة عزيزتهم وعزيزتنا الصبية المرحومة ريتا.
3. ونرحِّب بيننا بمنظّمة التميّز الإنساني، برئيسها الأستاذ شربل قبلان وعمدتها الأعضاء. ونثني على ما تقوم به المنظّمة من نشاطات ومساعدات في السجون ولدى العائلات المعوزة. إننا نقدّر أعمالها ومبادراتها الاجتماعية والإنمائية والإنسانية. ونتمنّى لها الازدهار والنموّ من أجل تحقيق أهدافها النبيلة. لقد تأسّست في البرازيل، ولها عدد كبير من الفروع في العالم، ومنها لبنان، حيث لها مكتب تمثيلي.
4. "تعاليا وانظرا" (يو1: 39). لم يقل الإنجيل شيئًا عن الكلام بين يسوع والتلميذَين. لكن الحياة معه، تحت نور وجهه وكلماته، كشفت لهما هويته وحقيقته. وعادا يخبران عنه.
فإندراوس أخبر أخاه سمعان وقال له: "وجدنا "مشيحا" أي المسيح" المنتظر الذي تكلّم عنه الأنبياء. وتطابقت شهادة اندراوس مع شهادة فيليبس الذي دعاه يسوع في اليوم التالي ليتبعه، والذي أخبر نتنائيل قائلًا: "لقد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الشريعة، والانبياءُ في الكتب، وهو يسوع، ابن يوسف من الناصرة" (يو1: 45).
هؤلاء كلّهم تجدّدوا في كيانهم الداخلي ونظرتهم ومعرفتهم، بنتيجة لقائهم بالمسيح. كلّهم أصبحوا رسلًا من بين الاثنَي عشر. وسمعان أصبح اسمه بطرس أي الصخرة، وبالآرامية السريانية، لغة يسوع، "كيفا"، إذ جعله الربّ صخرة إيمان بنى عليها كنيسته (متى16: 18)، وسلّمه رعاية أبنائها وبناتها، الذين سمّاهم خرافه (يو21: 15).
بفضل هؤلاء الأشخاص المتجدِّدين وأمثالهم، انطلقت الكنيسة منذ ألفَي سنة، وغيّرت وجه العالم بثقافتها الإنجيليّة، وقيمها الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة. وتفاعلت مع ثقافات الشعوب في كلّ أقطار الأرض، فاعلةً فيها من الداخل، مثل خميرة في عجين، بثمن شهادة الدم في أكثر الأحيان، عبر العصور. إلى مثل هؤلاء الأشخاص المتجدّدين تحتاج دائمًا الكنيسة والدّولة والمجتمع.
5. توجّه قداسة البابا فرنسيس إلى أعضاء الكوريا الرومانية، بمناسبة الأعياد الميلادية، بكلام ينطبق تمامًا على انتظارات التجديد والتغيير اليوم عندنا في لبنان، قال: "يكون الإصلاح فاعلًا فقط ولا غير، عندما يقوم به أشخاص متجدِّدون، وليس فقط أشخاص "جدُد". لا يكفي تبديل الأشخاص، بل ينبغي مساعدة الأشخاص العاملين في الدوائر على أن يتجدّدوا روحيًّا وإنسانيًّا ومهنيًّا. الإصلاح في الدوائر لا يتمّ عبر تغيير الأشخاص، ولو كان ضروريًّا. وإن كان لا بدّ من هذا التغيير فليكن أوّلًا بتغيير الذهنيّات باستمرار، وإلّا باطلًا يكون الجهد في الممارسة الوظيفية" (راجع جريدة الأوسرفاتوري رومانو الفرنسية الأسبوعية، عدد 252 تاريخ 29 كانون الأوّل 2016).
6. أجل، هذه هي حاجتنا اليوم في لبنان، مع العهد الرئاسي الجديد والحكومة الجديدة، في مؤسّساتنا الدستورية وفي سائر المؤسّسات العامّة. نحتاج إلى "تغيير في الذهنيات"، وإلى تجدّد روحي وأخلاقي وإنساني لدى العاملين في خدمة الخير العام. عندما يتأمّن هذا "التغيير" وهذا "التجدّد"، يمكن القضاء على الفساد المستشري في المؤسّسات العامّة، وضبط أموال الدولة ومالها العام وحمايتها من الهدر والسلب. ويمكن عندئذٍ الاتّفاق على سنِّ قانون جديد للانتخابات، يكون على قياس لبنان والشعب اللبناني، لا على قياس أفراد وفئات، وهي محاولة ترجع الى سنة 2005، ولم يظهر هذا القانون لان كل واحد يريده على قياسه. فاذا كان القانون على قياس لبنان والشعب اللبناني حينئذ يضمن التجدّد في النخب النيابية، ويعطي قيمة لصوت الناخب، الذي يبقى له حقّ المساءلة والمحاسبة تجاه الشخص الذي انتدبه ليمثّله تحت القبّة البرلمانية، وفقًا للدستور.
لقد ثمَّن الشعب اللبناني، المتواجد في لبنان وبلدان الخليج، تجديد العلاقة والصداقة اللبنانية-السعودية، واللبنانية-القطرية، بفضل زيارة فخامة رئيس الجمهورية الرسميّة إلى هذَين البلدَين الشقيقَين. وهم يتطلَّعون إلى مزيد من الزيارات إلى دول أخرى، شرقًا وغربًا، من أجل تجديد وتمتين موقع لبنان في الأسرتين العربية والدولية، وتفعيل دوره البنّاء فيهما.
7. انطلقت شهادة يوحنا المعمدان عن يسوع أنّه "حمل الله". إنّها تسمية نبوية، قالها يوحنا بفضل أنوار الروح القدس. يسوع هو حمل الفصح الجديد، الحمل الذي قدَّمه الآب لفداء البشر أجمعين وخلاصهم. فذُبح على الصليب حاملًا خطايا البشريّة جمعاء، وغاسلًا إيّاها بدمه.
وفي ليلة آلامه أسّس سرّ القربان والكهنوت، من أجل استمراريّة ذبيحة الصليب لفدائنا من خطايانا، ووليمة جسده ودمه لحياتنا وحياة العالم. هذا هو فصح المسيح، فصح العهد الجديد الذي يعبر بنا من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة، ويمنحنا الحياة الإلهيّة. إنّه فصح دائم عبر ذبيحة القداس الإلهي، المسمّاة إفخارستيا أي "صلاة الشكر"، التي تجمع جماعة المؤمنين، في يوم الأحد، يوم الربّ، وتجعل منهم "عائلة الله".
إنّنا باسم هذه "العائلة" نحتفل بهذه الليتورجيا الإلهية، حول مائدة الحمل المذبوح لخلاصنا، ونرفع صلاة الشكر للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.