لبنان
05 آذار 2017, 10:22

الرّاعي: الله يخلق فينا روحاً جديدةً تشفينا من البرص الدّاخلي والاجتماعي القتّال الّتي تسبّبه الخطيئة

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الالهي، في الصّرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه كل من المطران حنّا رحمه والارشمندريت أنطوان نصر، والسفير البابوي غبريال كاتشا، بحضور النائب إميل رحمه على رأس وفد مرافق من منطقتَي بعلبك والهرمل، وجماعة المؤمنين المصلّين. وبعد تلاوة انجيل شفاء الأبرص، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "إن شئتَ، فأنت قادرٌ أن تُطهّرَني" (مر1: 40)، وجاء فيها:

 

لقد أتى الأبرص إلى يسوع بشجاعة الإيمان، بالرغم من أنّ الشريعة تمنعه عن مخالطة الناس، لأنّ برصه مرض معدٍ وقتّال. لم يخفْ منهم بل تحمّل إهاناتهم، وتألّم من ابتعادهم عنه وكأنّه وباء. كان همُّه أن يُري نفسه يسوع، ويتوسّل إليه بثقة تامّة، قابلًا بما يشاء له الله: "فجثا وقال له: إن شئتَ فأنت قادر أن تطهّرني" (الآية 40).

جميل هذا الجمع بين الإيمان بأنّ يسوع قادر على شفائه من برصه، والتسليم للمشيئة الإلهيّة. وهو بذلك يقبل من الله كلّ شيء. وكأنّه يقول: "انا أريد ما تريده أنت. فلتكن مشيئتك". إنّها أجمل صلاة نرفعها إلى الله وبخاصّة في أوقات الضيق.

الخطيئة هي مخالفةٌ لوصايا الله وتعليمه في الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة. وهي إهمال لواجب الحالة أو المسؤوليّة، سواء في العائلة أم في الكنيسة أم في الدولة. وهي أيضاً سوء استعمال السلطة والمال وخيرات الارض.

 

هذه الأنواع الثلاثة من الخطايا، إذا أصبحت حالة في حياة الشخص، من حيث هي أفعال تتكرّر، ولا يتوب عنها، ولا يصحّح مجرى حياته، تضحي برصاً داخليّاً قتّالاً. فيكون هذا "البرص" منبع الحالة التي يتخبَّط فيها مجتمعنا: فساد وانحطاط في الأخلاق، إقطاعيّة سياسيّة تعطّل القانون والعدالة، مصالح شخصيّة وفئويّة ومذهبيّة تعرقل مسيرة المؤسّسات العامّة وبخاصّة أجهزة الرقابة، استيلاء على أموال الدولة ونهبها وهدر مال الخزينة، رشوات وخوّات تحطّم الرغبة في الاستثمار وإنشاء المشاريع الإنمائيّة في المناطق، ممارسة سياسة لا توفّر الخير العام وتهمل مصالح المواطنين وخيرهم وحقوقهم، وخير البلاد وإنماءه، التلكّؤ منذ سنوات عن إقرار الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب وعرقلة إصدار قانون جديد للانتخابات على قياس الدولة والشعب، إهمال حلّ قضية النفايات والعناية بالبيئة السليمة والصحة العامة. كلّ هذه الحالات هي برص اجتماعي قتّال. نأمل من ذوي الإرادة الحسنة العمل على إزالته.

 

عندما أزال الربّ يسوع برص الأبرص أصبح طاهراً منه بالكلّية، وكأنّه خلقه من جديد بلمسة يد وكلمة. هكذا عندما يمنحنا الله الحلَّ من خطايانا، بواسطة الكاهن، الذي نسمع منه، ونحن تائبون حقّاً، كلمة الغفران الإلهي، فإن الله يخلق فينا قلباً جديداً وروحاً جديدةً.

  وعندما أمره يسوع أن "يُري نفسه للكاهن ويقدّم قرباناً لله عن شفائه" (راجع الآية 44)، كانت هكذا تأمر الشريعة وتولي كاهن العهد القديم الحقّ الشرعي بأن يتحقّق من مرض البرص ويأمر الأبرص بالعيش خارج الجماعة. وإليه نفسه يعود الأبرص، إذا شفي، لكي يعلن شفاءه، ويسمح بعودته إلى الحياة وسط الجماعة. في العهد الجديد، الكاهن مؤتمن على سلطان إلهي يقضي كقاضٍ، بوجود الخطيئة ودرجتها وحقيقتها وأهميّتها، وكوسيط مقام بين الله والناس،يمنح الغفران من الخطايا للتائبِ الحقيقي. وكما أنّ الخطيئة تفصل الخاطي بذات الفعل عن الشّركة الروحيّة مع الله والجماعة المؤمنة، وبالتالي تمنعه من تناول جسد الربّ ودمه، كذلك عندما ينال غفران الخطايا، يعود إلى حياة الشّركة ويتقدّم من المناولة القربانيّة.

 

أمّا القربان عن الشفاء فهو، في العهد الجديد، ذبيحة الرب يسوع في القداس التي يقدّمها المؤمنون صلاة شكرٍ لله على رحمته وحنانه وشفائه لنا وعلى سائر نعمه. يومُ الأحد، المعروف بيوم الربّ، هو الذي تجتمع فيه جماعة المؤمنين لهذه الغاية، ويوطّدون رباط المحبة والوحدة والتضامن. ولذا تُسمَّى الذبيحة الإلهيّة باليونانيّة "إفخارستيا" أي صلاة الشكر. ونقدِّم معها قرابين أعمالنا الصالحة وأوجاعنا وآلامنا.

 لم يستطع الأبرص الذي شُفي أن يكتم "الخبر السّار"، بل "راح ينادي بأعلى صوته ويذيع الخبر" (الآية 45). راح يعلن خبر حبّ الله ورحمته وقدرته الفائقة. هذا ما تفعله الكنيسة والجماعة المؤمنة في الصلوات الليتورجيّة وصلوات الساعات وفي سائر المناسبات الروحية وبخاصة في رسالتها الخلاصية. لم يبشّر هذا الرجل بنفسه بل بالربّ يسوع مخلّص الجميع.

 

نسأل الله أن يجعل زمن الصوم الكبير مناسبة لإدراك واقع حياتنا على ضوء كلام الله وتعليم الكنيسة، وللبلوغ إلى توبة داخلية تفضي بنا إلى تصحيح مجرى حياتنا. فنستحقّ أن نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث  القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

بعد القداس، توجّه الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، يرافقه السفير البابوي المطران غابريللي كاتشا والمطران حنا رحمه والنائب اميل رحمه والوفد المرافق إلى صالون الصّرح، حيث ألقى النائب رحمه كلمة جاء فيها:"انّنا نتوق لتكرار زيارتكم التاريخية الى منطقتنا لأنّ ما زرعتموه عندنا لا يزال يعيش في نفوسنا وعزائمنا، لأنّكم حملتم معكم الحكمة والجرأة والمحبة والشركة.

وبالمناسبة اسمحوا لي يا صاحب الغبطة، أن أردّد أمامكم من هنا، من صرح الكلمة الحرة كلمة الحق، وإنجيلي علمني بأن أشهد للحقيقة وللحق. انّ أبطال الجيش اللبناني وأبطال المقاومة الذين يرابطون في جرود منطقتنا هم الذين أشاعوا الأمن والطمأنينة في نفوسنا".

وأضاف رحمه:"إنّ فخامة الرئيس العماد ميشال عون عندما أسّس في خطاب القسم على إعلاء التصدي الاستباقي بوجه الإرهاب التكفيري، كان يقصد ما يقوم به اللبنانيون في جرود منطقتنا لأنّ الهجمة التكفيرية الارهابية هي على تخوم منطقتنا ولم تفرّق بين مسلم ومسيحي بين بلدة وبلدة."

من جهته، ردّ البطريرك الراعي بكلمة رحّب فيها بالنائب رحمه وبالوفد المرافق من منطقة بعلبك – الهرمل ودير الاحمرمنوهًا بصمود أهل المنطقة وتجذرهم فيها.كما دعاهم للثّبات والعمل فيها، داعياً الدولة للإهتمام الزائد والدائم بهذه المنطقة العزيزة وتحقيق مطالب أهلها".

  كذلك، شكر السّفير البابوي النائب رحمه على دعوته، مثنياً على ما قاله البطريرك الرّاعي، داعياً للصّلاة على نيّة أرواح الشهداء الذين استشهدوا دفاعاً وفداءً عن المنطقة مثمناً صمود أهاليها.