لبنان
21 نيسان 2019, 13:15

الرّاعي: المسيح الإله أخذ جسدنا البشريّ لكي يموت مثلنا، وقام لكي يقيمنا مثله

لمناسبة عيد الفصح، ترأّس البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، وألقى خلاله عظة تحت عنوان: "أنتنّ تطلبن يسوع المصلوب، لقد قام!" (مر6:16). قال فيها:

"فخامة الرئيس، 
يسعدني أن أرحّب بكم وبالسّيّدة اللّبنانيّة الأولى عقيلتكم، محاطين بهذا الجمهور من الشّخصيّات: وزراء ونوّابًا ورؤساء بلديّات ومخاتير وقادة عسكريّين ورجال إدارة وقضاء ومؤمنين ومؤمنات. وقد أتيتم، جريًا على العادة الحميدة، للاحتفال بعيد قيامة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح من الموت. إنّ موت المسيح مصلوبًا لفداء خطايا البشر وخطايانا، وقيامته ممجّدًا لتقديس العالم وتقديسنا (راجع روم25:4)، هما حدثان تاريخيّان متكاملان ومتلازمان بدّلا وجه التّاريخ. هذا هو الخبر المفرح الّذي نقله الشّاب الجالس في القبر الفارغ إلى النّسوة، وعبرهنّ إلى البشريّة جمعاء: "أنتنّ تطلبن يسوع المصلوب، لقد قام!" (مر6:16). فيطيب لي أن أعرب لكم، فخامة الرّئيس، عن أطيب التّهاني والتّمنّيات بالعيد راجين أن يكون فيض نعمٍ وخيرٍ ونجاحٍ عليكم وعلى أسرتكم، وعلى جميع الحاضرين والمشاهدين والسّامعين، عبر وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ. كما نرجوه عيد قيامة لوطننا من أزماته الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة، وعيد سلام واستقرار في بلدان الشّرق الأوسط ولاسيّما في فلسطين والعراق وسوريا، وعيد رجوع جميع النّازحين واللّاجئين إلى أوطانهم وأراضيهم، لحفظ هويّتهم وثقافتهم وحضارتهم، وللتّخفيف عن كاهل لبنان من عبئهم الاقتصاديّ والإنمائيّ ويد عمالتهم.
الموت والقيامة هما فصح الرّبّ، عيد الأعياد، واحتفال الاحتفالات. فكما تكسف الشّمس النّجوم، كذلك يكسف هذا العيد جميع الأعياد. لقد مات المسيح فداءً عنّا، لكي نتشبّه به بموتنا عن الخطيئة والشّرّ اللّذين غسلهما بدمه؛ وقام من الموت ليشركنا في حياته الإلهيّة، وصعد إلى السّماء ليرفعنا إليها (القدّيس غريغوريوس النّزينزي). بالقيامة أصبحنا قياميّين، وبنعمتها انفتحت السّماوات بوجه جميع البشر. فكانت الدّعوة المتجدّدة في المزمور 117: "هذا هو اليوم الّذي صنعه الرّبّ. فلنبتهج ونتهلّل به" (مز24:117).
"يومٌ صنعه الرّبّ" لكي يبتهج كلّ إنسان: المعافى شاكرًا، والمريضُ شريكًا في آلام الفداء؛ الغنيُّ عارفًا للجميل، والفقير شبيهًا بالإله الّذي صار فقيرًا ليغنينا بقيم الملكوت؛ الفرحانُ حاملاً الفرح للقلوب الكسيرة، والحزينُ فاتحًا قلبه للعزاء الإلهيّ.
المسيح الإله أخذ جسدنا البشريّ لكي يموت مثلنا، وقام لكي يقيمنا مثله. هذا هو جوهر الإيمان المسيحيّ: "أنّ المسيح قام من بين الأموات، وهو بكر القائمين من رقاد الموت" (1كور20:15).
" يومٌ صنعه الرّبّ"، لأنّه جعل لنا الفصح عبورًا إلى حياة جديدة بنعمة قيامته، على ما أكّد بولس الرّسول: "نحن نعلم أنّ الإنسان القديم فينا صُلب مع المسيح حتّى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا فلا نبقى عبيدًا للخطيئة" (روم6:6). عندما نسمع كلمة خطيئة ربّما نحصرها بمعناها الرّوحيّ الّذي هو إساءة إلى الله بمخالفة وصاياه ورسومه. ولكنّ الخطيئة هي أيضًا إساءة إلى أيّ إنسان مادّيًا أو معنويًّا، حسّيًّا أو روحيًّا، ظلمًا أو إعتداءً أو إنتهاكًا لكرامته، فتأخذ إسم خطيئة اجتماعيّة؛ والخطيئة هي إنزالُ الضّرر بالشّعب وإفقارُه وتجويعه وحرمانه من حقوقه الأساسيّة، وإهمالُ تأمين الخير العامّ، والتّسبّبُ بالنّزوح الدّاخليّ وهجرة الوطن، وسلبُ المال العامّ وهدره، وتقويض الدّولة ومؤسّساتها، وتسمّى خطيئة سياسيّة.
من هذه الخطايا الرّوحيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة يريد الرّبّ يسوع أن يحرّرنا، لكي نحقّق فصحنا وننعم "باليوم الّذي صنعه الرّبّ، ونبتهج ونتهلّل به" (مز24:117).
   فخامة الرّئيس،
لقد وضعتم شعارًا لعهدكم "مكافحة الفسّاد" و "قيام دولة القانون والمؤسّسات"، وفي نيّتكم أن يكون عهدًا مفصليًّا بين لبنان مضى ولبنان يشرق من جديد لأجيالنا الطّالعة. فلا بدّ من البدء بمكافحة "الفسّاد السّياسيّ" الظّاهر في سوء الأداء، وإهمال موجبات المسّؤوليّة عن الشّأن العامّ، والغنى غير المشّروع بشتّى الطّرق، واستغلال الدّين والمذهب لخلق دويلات طائفيّة في هذه أو تلك من الوزارات والإدارات العامّة وأجهزة الأمن، وتكوين مساحات نفوذ فوق القانون والعدالة وسلطة الدّولة. ومن الضّرورة إعادة بناء الوحدة الدّاخليّة وتعزيز الولاء للوطن قبل أيّ ولاء آخر، وتحقيق اللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة، وسنّ قوانين بنيويّة لإصلاح الدّولة المركزيّة.
وبما أنّ "العدل أساسّ الملك"، فإنّا نؤيّد كلّ ما قلتموه منذ خمسة أيّام في احتفال نقابة المحامين، بشأن تحرير القضاء من تدخّل أيّة مرجعيّة سياسيّة أو حزبيّة أو مذهبيّة، ومن التّعدّي على صلاحيّاته من أيّ جهاز أمنيّ. كما يجب تنقية الجسّم القضائيّ من الدّاخل، منعًا لأيّ شبهة، وتطبيقًا لقاعدة الثّواب والعقاب. نحن مع فخامتكم نريد للقضاء أن يكون فعلاً سلطة دستوريّة مستقلّة.
وكون عصب الدّولة اقتصادها وماليّتها، فإنّا إذ نهنّئكم والحكومة على إنجاز خطّة الكهرباء، بعد سنوات من الانتظار أنهكت خزينة الدّولة وجيوب المكلَّفين، نأمل تنفيذ هذه الخطّة بما يلزم من الإسراع والشّفافيّة. فهي بداية الإصّلاحات المطلوبة من مؤتمر "سيدر". وفيما نثني على الجهد الهادف إلى إقرار الموازنة، الّتي كنّا ننتظرها خلال الأسبوع الفائت، لا بدّ من التّذكير بوجوب إقرار قطع الحسّاب لتستقيم ماليّة الدّولة.
أمّا درجة الخطورة الّتي بلغها الاقتصاد وواقع المال العامّ والدَّين المتنامي، فتستوجب من السّلطة السّياسيّة اتّخاذ تدابير مجدية، بدلاً من تقاذف المسّؤوليّات. وأولى هذه التّدابير الواجبة إقفال أبواب هدر المال وسلبه، وضبط الإنفاق والاستدانة، والحدّ من الفساد والمحاصصة، ولملمة مال الدّولة من مختلف مصادره، وجمع ما يتوجّب على المواطنين من ضرائب ورسوم، في جميع المناطق ومن الجميع.
أمّا عمليّة التّقشّف فيجب تحديد مساحاتها مع الحرص على ألاّ تكون على حساب ذوي الدّخل المحدود والطّبقات الفقيرة، لئلاّ تزيد من نسبة الفقراء عندنا فوق ما هي عليه، وتتسبّب بقيام ثورة الجياع، لا سمح الله!
وفي خضمّ الصّراع الدّوليّ والإقليميّ والمخاطر الّتي تحيط بمنطقتنا الشّرق أوسطيّة، نشدّد معكم على ضرورة النّأي بالنّفس، والتّمسّك باتّفاق بعبدا، وتوحيد الموقف اللّبنانيّ، وعدم الإنزلاق في أيّة محاور، من أجل حماية لبنان وتجاوزه المخاطر الرّاهنة.
   فخامة الرّئيس،
نحن نؤمن معكم أنّ القيامة أقوى من الموت، وأنّ قيامة لبنان ممكنة بقوّة إيماننا بالمسيح القائم الّذي ينتظر منّا أن نقوم نحن أوّلاً من عتيقنا إلى حياةٍ جديدة ورؤية جديدة وإرادة جديدة. بهذا الإيمان أنتم تقودون، فخامة رئيس البلاد، مسيرة قيامة لبنان مع معاونيكم المسّؤولين ذوي الإرادات الحسنة.
    فالمسيح قام! حقًا قام! "