لبنان
11 حزيران 2017, 11:28

الرّاعي:نجدّد تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم البريء من الدَّنس ونرجو أن تغسل دماء المسيح كلّ الشرور المرتكبة على هذه الأرض المشرقيّة

ترأّس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاساً احتفاليّاً في بازيليك سيدة لبنان حريصا، لمناسبة الاحتفال بتجديد تكريس لبنان والشّرق الأوسط للعذراء مريم؛ بمشاركة السفير البابوي المطران غابريللي كاتشا، وبحضور الأخويات وسائر الحركات الرسولية والمتخرّجين الثمانين من شبّان وشابّات مسؤولون في المنظّمات الرسولية. وبعد ويعد الإنجيل، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان:"أنا معكم كلَّ الأيام إلى نهاية العالم" (متى 28: 20)، وقد جاء فيها:

عندما طلبت السيّدة العذراء هذا التكريس كانت الحرب الكونيّة الأولى تخلّف الويلات والضحايا. وكانت روسيا الشيوعيّة الملحدة تضطهد الكنيسة وتعتقل أساقفتها وكهنتها ورهبانها وراهباتها وتستولي على أملاكها؛ وكان الشّر يتزايد وينمو. فظهرت للفتيان الرعيان الثلاثة وأرتهم لبرهة مرعبة جهنّم كبحر كبير من النار يغوص فيه الشياطين والخطأة والأشرار. وظهر ملاك مع العذراء يشير بيده اليمنى إلى الارض وينادي بصوت عظيم:"توبوا! توبوا! توبوا!" فرحمة الله كبيرة ولا حدود لها. وسلّمتهم  ثلاثة أسرار. وطلبت في الأوّل والثاني التكريس لقلبها البريء من الدنس، والمناولة التعويضية في كلّ أوّل سبت من الشهر، واللجوء دائما الى الرحمة الالهية. وأكّدت لهم أنّ في النهاية سينتصر قلبها البريء من الدنس، ويوهب العالم السلام (راجع مجمع عقيدة الإيمان: رسالة فاطيما (2000) ص19-20).

أرادت التكريس لقلبها، لأنّ "القلب" في الكتاب المقدّس يعني مركز الوجود البشري، حيث الصلة بالعقل والإرادة والأحاسيس، وحيث وحدة الشخص البشري وكيانه الداخلي وشخصيّته.

وأرادت أمّنا مريم العذراء هذا التكريس بسبب قلقها الشديد، كأمّ لجميع الناس والشعوب، على مصيرهم الزمني والأبدي بسبب الحروب والابتعاد عن الله والتعدّي على شريعته ووصاياه من دون أيّ وخز ضمير أو اعتبار.

إنّنا نجدّد تكريس لبنان لقلبها البريء من الدَّنس، وهو مهدَّد في كيانه وشعبه وأرضه بأزمات سياسيّة واقتصاديّة ومعيشيّة وأمنيّة؛ ويتآكله مليونا لاجئ ونازح يشكّلون نصف سكّانه، وهم على تزايد بآلاف الولادات الجديدة، ويسابقونه على لقمة عيشه وعمله؛ ويُستباح فيه القتل والنّهب والاعتداءات من كلّ نوع، فيما المسؤولون السياسيّون منشغلون بحسابات مصالحهم الخاصّة على قاعدة زيادة الربح وتصغير الخسارة. وما يؤلم بالأكثر هو همّهم الوحيد المحصور بقانون جديد للانتخابات وتعليق كلّ باقي الأمور الملحّة الحياتيّة التي تؤلم المواطنين إلى أجَل غير مسمّى. فمع تقديرنا لكلّ الجهود المخلصة وتمنياتنا بالنجاح، نأمل الّا نصل الى ما لا يريده احد من تمديد مفتوح، أو فراغ في المجلس النيابي. وكلاهما شرّان كبيران مرفوضان. وفي كلّ حال، لقد اختبرنا كيف يد سيدة لبنان الخفيّة حمت هذا الوطن في كلّ مرّة بلغ إلى شفير الهاوية بسبب صلاة شعبه وتكريسه لها واستحقاقات أوجاعه وآلامه.

 ونجدّد تكريس بلدان الشّرق الأوسط التي تنهشها الحروب المفروضة عنوةً والآخذة بتدميرها وقتل أبريائها وتشريد مواطنيها، لا لغاية سوى لمطامع الدول الاقتصاديّة والسياسيّة والاستراتيجيّة. نجدّد تكريس سوريا والعراق وبلدان الخليج والأرض المقدّسة ومصر وبلدان أفريقيا الشماليّة. وكلّها بلدان عزيزة على قلبنا، وعلى قلب مريم، وفيها رسّخت المسيحية حضارة الإنجيل وثقافة قيمة الإنسان والحياة البشريّة والعيش معًا والانفتاح على الآخر المختلف، وقيمة الحرية التي هي عطية ثمينة من الله.

إنّ التكريس فعل إيمان وصلاة إلى أمّ الإله وأمّ الإنسان، مريم الكلّية القداسة. فالصلاة أقوى من الرصاص وقذائف المدافع، والإيمان أقوى من كلّ مخطّطات الشّر.

إنّنا، إذ نجدّد التكريس لقلب مريم البريء من الدنس، فنحن نريد أن نتّحد بالمسيح الذي كرّس نفسه لأبيه من أجل فداء العالم؛ ونتّحد بمريم، عذراء الناصرة، التي كرّست كلّ ذاتها لابنها ولتصميمه الخلاصي كشريكة سخيّة بإيمانها ورجائها ومحبّتها. وبدورنا نكرّس ذواتنا لنكون مثلها سكنى الثالوث القدّوس، فننفتح لمحبة الآب، ونتقدّس بنعمة الابن، ونجعل من ذواتنا هيكلًا للروح القدس، هيكلًا للحقيقة والمحبة.

 وإنّنا نصلّي ونرجو أن تغسل دماء المسيح الفادي كلّ الشرور المرتكبة على هذه الأرض المشرقيّة التي عليها أشرق نور محبّته، وانجلى سرّ الله الواحد والثالوث الذي كان مكتومًا منذ الدهور، وارتفع صليب الفداء، وبه تمّت مصالحة جميع الناس مع الله ومع ذواتهم ومع بعضهم البعض، وأُعلنت الحياة الجديدة المنبثقة من قيامته، وأُفيض الروح القدس ليكون في داخل كلّ إنسان نورَ حقيقة وشعلةَ حبّ.

هذه هي أرضنا المقدّسة التي نعيد اليوم تكريسها لقلب مريم الطّاهر.

بفعل التّكريس هذا، نلتمس من أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان وسلطانة السلام، تجلّي الحضور الإلهي الذي يعدنا به الربّ يسوع في إنجيل اليوم:"وها أنا معكم كلّ الأيام إلى نهاية العالم" (متى 28: 20).

للثّالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، السّجود والمجد والشّكر، الآن وإلى الأبد، آمين.