الضّمير المسيحيّ
""طوبى لمن لم يقضِ عليه ضميره ولم يسقط من رجانه" (سيراخ ١٤ - ٢)
"في جميع أعمالك اقتد بضميرك فإنّ ذلك هو حفظ الوصايا" (سيراخ 32 – 27)
إنّ تعبير "الضّمير" لا يرد في الكتاب المقدّس، أمّا الفكرة فهي موجودة ويعبّر عنها بكلمة "القلب". نقرأ في (1 صموئيل 24 - ٥) "وكان بعد ذلك أنّ قلب داود ضربه على قطعة طرف جبة شاول"، وكذلك في (۲ صموئيل 24 - ١٠) و (الحكمة 17 - 10). ولا يستخدم تعبير "الضّمير" إلّا في الأسفار "أبوكريفا". أمّا في العهد الجديد فإنّ تعبير الضّمير يستخدم مرارًا وبخاصّة في رسائل بولس.
مع أنّنا نجد أنّ تعبير القلب المستخدم في العهد القديم يستخدم أيضًا في العهد الجديد "وبهذا نعرف أنّنا من الحقّ ونسكب قلوبنا قدّامه، لأنّه إن لامتنا قلوبنا فاللّه أعظم من قلوبنا ويعلم كلّ شيء". (١ يوحنا ۳ : ۱۹ - ۲۰).
إنّ تعبير الضّمير مشتقّ من فعل يونانيّ "SYNEIDESIS"، يعني عرف بالارتباط مع، فالضّمير إذًا ليس مجرّد معرفة ووعي، بل هو معرفة مرتبطة بشيء ما أو بشخص ما.
يتميّز الإنسان بأنّه في ضميره يعرف الأشياء الأخلاقيّة بالارتباط مع إرادة أعلى من إرادته وأسمى منها. هذه الإرادة التي هي إرادة اللّه هي ما يسمّيه النّاس القانون أو الشّريعة. وينبغي على الإنسان أن يحيا وفق هذه الشّريعة الأخلاقيّة. لذا نستطيع أن نعرّف الضّمير بأنّه تلك المعرفة أو الوعي الذي يعرف الإنسان بواسطته أنّه يمتثل للشّريعة الأخلاقيّة أو لإرادة اللّه. وهكذا نجد أنّ الضّمير "معرفة مرتبطة" وهذا يعني أنّنا في وحدة مع اللّه، إذ نصبح مدركين ما هي صلتنا بإرادة اللّه، وما إذا كنّا نفعل إرادته أم لا. لذلك فضميرنا يخبرنا ليس فقط بما نحن عليه فحسب، بل ما ينبغي أن نكون عليه أيضًا.
الضّمير هو معرفة ووعي، وليس كالغريزة طوعيًّا باطنيًّا يقود الحيوان إلى السّير في مسلك معين، بل إنّه دراية ووعي لشريعة مقدّسة فوق الإنسانيّة، تخاطب إرادة الإنسان الواعية لا لكي تفرض مطالبها عليه قسرًا، بل لكي يرغب هو في اتّباعها طواعية وبدون إكراه. إنّ الإنسان يكتسب بفضل الضّمير وعيه لإنسانيّته، وبهذا يتميّز عن الحيوان. وبفضل الضّمير يتعلّم الإنسان أنّه ليس خاضعًا لضرورة معيّنة، كما هي الحال عند الحيوان، تلزمه باتّباع القانون الطّبيعيّ، ولكنّه ملزم بأن يحيا وفق قانون روحيّ.
لكلّ إنسان ضمير وهو لم يفقده بسبب سقوطه، ويبدو من الطّبيعيّ أن نفكّر بأنّ الضّمير هو جزء من الصّورة الإلهيّة التي ما تزال في الإنسان السّاقط (1 كورنثوس ۱۱- ۷) و(يعقوب ۳- ٩). غير أنّ الضّمير قد تعطّل من حيث صلته بالشّريعة بسبب سقوطه، فالضّمير منصّة قضاء وهو يصدر أحكامه على أساس وعود شرعيّة يمتلكها.
فبسبب السّقوط أصبحت هذه المعرفة للشّريعة أمرًا مبهمًا، لذلك يعمل ضمير الإنسان بصورة ناقصة نتيجة لنقص معرفته لإرادة اللّه.
لذا فالضّمير الوثنيّ يقوده ليسجد لأشياء صنعها الإنسان بيديه بدلًا من السّجود للخالق، كما يقوده ضميره إلى ممارسة أكثر مراسيم العبادة تفاهة وخلوًّا من المعاني. ومع ذلك، فإنّ ضمير الوثنيّ يحظر عليه القيام بأعمال تجيزها الأخلاق، بل يمضي أيضًا إلى تحذير أعمال طيّبة كمساعدة المرضى، لأن الوثنيّ يعتقد بأنّ المرض ناجم عن لعنة الإلهيّة.
لذا يجب أن نميّز بين شكل الضّمير ومضمون الضّمير، ونعني بمضمون الضّمير الحكم العقليّ الذي يصدره الضّمير في ظرف معيّن. ونعني بشكل الضّمير وظيفة النّفس الخاصّة التي تجبر الإنسان بوجوب تنفيذه رغبة لإرادة اللّه. إذ إنّ الضّمير من حيث الشّكل هو نفسه وبصورة مطلقة، في كلّ الآراء والشّعوب والأزمنة. فمن الحقّ أن يقال إنّ الضّمير ومن حيث الشّكل معصوم عن الخطأ. أمّا من حيث المضمون، فإنه ليس معصومًا عن الخطأ. لأنّ مضمون الأحكام التي يصدرها الضّمير تعتمد على مقدار معرفة الشّخص لإرادة اللّه. لذلك نرى كيف أنّ اللّه رتّب بمقتضى رحمته أن يبقى في الإنسان السّاقط صوت (ضمير) يكلّمه بسلطة مطلقة من عالم الأبديّة غير المنظورة ويخبره بوجوب قيامه بتنفيذ إرادة اللّه.
لكنّ هذا الصّوت (الضّمير) هو ناقص ولا يستطيع أن يخلّص الجنس البشريّ بالاعتماد عليه فقط، وذلك لأنّ الإنسان خسر المعرفة الحقيقيّة لإرادة اللّه، ومن ثمّ أصبح من الضّروريّ أن يعلن اللّه نفسه للإنسان السّاقط، وهذا يخبرنا به ويكشفه لنا الكتاب المقدّس.
ما هو الشّيء الجديد في إعلان إرادة اللّه الذي جاء به يسوع؟ كرز يسوع بالحقيقة الثّوريّة وهي أنّ الخطيئة لا تكمن بصورة أساسيّة في الأعمال التي نقوم بها، ولا في الكلمات التي ننطق بها، بل في موقف القلب الذي منه يصدر كلّ شيء.
فالخطيئة إذًا هي بالأساس حال قلبنا وحقيقته وتعبير عن إرادتنا، والشّريعة تتحدّث عن السّجود وتقديم الذّبائح، أمّا يسوع فيتحدّث عن القلوب وعن اللّه محبّة، ويعبّر بولس الإلهي عن ذلك بقوله: "إن كان لي نبوءة وأعلم جميع الأسرار وإن كان لي كلّ الإيمان حتّى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلست شيئًا" (1كورنثوس ۱۳ : ۲- 3).
إنّ اللّه يلمس ضميرنا أيضًا بوسيلة أخرى أو بطريقة أخرى، وهي الإيقاظ الرّوحيّ ممّا يجعل الضّمير يقوم بوظيفته بصورة طبيعيّة، فالإيقاظ الرّوحيّ يدعونا أو يمنحنا فرصة لنتوب. في الكتاب المقدّس نصوص رائعة توضح أنّ اللّه يمنح التّوبة للإنسان كهبة مثلاً: (أعمال الرّسل ٥: ٣١ و۱۱: 18) و ( ۲ تيموثاوس ۲: ۲۵). لكن سرعان ما تكتسب النّفس الموقظة المزيد من معرفة اللّه، وبالطّبع سوف تبدأ بالصّلاة وقراءة الكتاب المقدّس وسماع كلمة اللّه، ولن يمضي وقت طويل حتّى يبدأ ضمير هذه النّفس بإصدار الحكم بشأن خطاياها الباطنيّة، أيّ خطايا الفكر والرّغبة والتّصوّر والقول. كما أنّه سوف يدين شخصيّتها كلّها، أيّ يدين قلبها الذي منه تنبثق كلّ الخطايا.
يقودنا هذا إلى معنى الضّمير في حياة الإنسان المسيحيّ، فالضّمير يحمينا من خداع النّفس ويجعل إحساسنا بالخطيئة حيًّا. ويقول الكتاب المقدّس بأنّ قلب الإنسان أشدّ خداعًا من كلّ شيء. ولكنّ الحقيقة مفجعة هي أنّ الإنسان يرغب في أن يكون مخدوعّا وهذه مشكلته الكبرى وأعظم خطر يحيط به، غير أنّ الضّمير يضع نصب أعيننا هدفًا لا يقلّ عن الكمال الذي يطالب به المسيح "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ هو كامل" (متى ٥: ٤٨) .
ويمضي ضميرنا كلّ يوم فيحاكم حياتنا على ضوء الكلام بحيث يجدنا مذنبين في تهم كثيرة ويوبّخنا بلا انقطاع على موقف قلبنا الذي يتعارض مع إرادة اللّه. وهكذا يجعلنا في الواقع "إنّنا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا" (يعقوب 3- 2). فالكثير من كلماتنا وأعمالنا تبدو خارجيًّا صالحة تستحقّ تقدير من حوالينا، لكنّ ضميرنا يقول: إنّ دوافعكم ليست صالحة فبهذا المقدار أنتم لم تقولوا هذا أو تفعلوا بدافع المحبّة، وفي هذا المجال نلاحظ أنّ الضّمير يقيسنا بمقياس الكمال.
لذلك يقودنا الضّمير إلى المسيح وإلى صليبه كلّ يوم وهكذا يجعلنا نجوع ونعطش إلى درجة لا نتمكّن معها من العيش يومًا واحدًا بدون أن نأتي ونتناول المياه الحيّة والخبز النّازل من السّماء الواهب الحياة للعالم.
ومن هنا نلتمس سرًّا من أسرار الحياة بالإيمان وننفذ ببصيرتنا إلى حقيقة الإيمان لنعرف أنّها حياة تمتلئ بالقلق أيضًا. فالضّمير يخلق عنصر القلق الذي يدفع إيماننا إلى نضال مستمرّ ودائم.
هذا القلق هو جزء من الإيمان الحيّ ولا يمكن فصله عنه، فإذا أزيح من حياة الإنسان غدا إيمانًا ميتًا يمسك نعمة الله بالعقل، ولكنّه لا يمنح الضّمير الفرصة ليدين الخطيئة. ويمنح الخاطئ شعورًا قويًّا بعدم الجدارة، وهو ينبغي أن يحسّ به حينما يوقفه ضميره أمام اللّه.
فضيق الضّمير لا يلد الإيمان فقط بل يحدّد إيماننا ويبقيه حيًّا باستمرار، وهو الذي يحفظ إيماننا ويبقيه كإيمان حيّ. وهذا الضّمير هو الذي يقود إيماننا ويوجهه إلى المسيح لأنّ الإيمان هو التّطلّع إلى المسيح بنتيجة ما يشعر به الضّمير من ضيق."
