العبسيّ: خارج نور المسيح ليل
وللمناسبة، ألقى العبسيّ عظة قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة: "في آحاد زمن القيامة تقرأ علينا الكنيسة من إنجيل يوحنّا معجزات كبيرة، جسديّة وروحيّة، صنعها يسوع للتّدليل والتّذكير بأنّه هو القائم من بين الأموات وسيّد الحياة. من هذه المعجزات اهتداء توما والسّامريّة وشفاء المخلّع والأعمى منذ مولده الّذي سمعنا الآن حادثة شفائه.
1.مشهد الأعمى
أعمى منذ مولده يراه يسوع فيأتي إليه بمبادرة شخصيّة مجّانيّة ويشفيه من دون أن يسأله أو يطلب رأيه، ثمّ يقول له انطلق "الله معك". لكنّ المشهد لا ينتهي هنا، فبفضل هذه المبادرة وهذا الشّفاء أخذ الأعمى يتعرّف على يسوع شيئًا فشيئًا: ما كان يعرفه قبلًا، ثمّ اعترف بأنّه نبيّ، ثمّ بأنّه من الله، ثمّ بأنّه الرّبّ، إلى أن سجد له قائلًا: "أنا أومن يا ربّ". فتح يسوع عيني جسد الأعمى لكنّه في الوقت عينه فتح عيني قلبه وعقله، جعل منه رجلًا مؤمنًا.
إنّ مسيرة الإيمان الّتي قطعها هذا الأعمى في وقت قصير هي مسيرة إنسان خبر يسوع في حياته اختبارًا كبيرًا شخصيًّا حسّيًّا، فما عاد في حاجة إلى برهان على أنّ يسوع هو ابن الله، ما عاد في حاجة إلى أن يفلسف إيمانه. لقد رأى يسوع بعيني الجسد والقلب والعقل معًا، وكأنّي به يقول لليهود الفرّيسيّين ما قاله الإنجيليّ يوحنّا مورد هذه العجيبة في رسالته الأولى: "إنّ ما سمعناه وما رأيناه بأعيننا وما تأمّلناه وما لمسته أيدينا في شأن كلمة الحياة... به نبشّركم" (١ يو ١-٣ :١). جلّ ما كان الأعمى يعلمه ويريد أن يعلنه هو أنّ يسوع أدخل الفرح إلى حياته مع إدخاله الإيمان.
2. مشهد الفرّيسيّين
وإذا بالفرّيسيّين الّذين عميت قلوبهم وبصائرهم يطلّون على السّاحة. هؤلاء لم يكترثوا بأنّ الأعمى صار يبصر. وفي الأصل ما همّهم ذلك. لم ينظروا إلى عمل الخير الّذي عمله يسوع. كان جلّ همّهم أن يحاربوا يسوع بأيّ وسيلة ولأيّ سبب. وفي هذه الحال ما وجدوا سببًا سوى أنّ يسوع شفى الأعمى في يوم سبت. وكأنّنا بهم يفضّلون أن يبقى الأعمى أعمى على أن تخالَف الشّريعة. ما كان همّهم أن يرى الأعمى أو لا يرى بل أن لا يخالف السّبت. ما كانوا ينظرون من منظار يسوع، ولذلك كانوا عميانًا وقال عنهم السّيّد إنّهم عميان يقودون عميانًا. هؤلاء الفرّيسيّون انتفت من قلوبهم الشّفقة والرّحمة بحيث ينطبق عليهم قول صاحب المزامير: "لهم آذان ولا تسمع ولهم عيون ولا ترى". ليس الإنسان في نظرهم إنسانًا مدعوًّا إلى الحرّيّة والكرامة والفرح بل هو عبد مسخّر بالقيام بأعمال ليس أكثر.
هؤلاء الفرّيسيّون كانوا يَعدّون أنفسهم وحدهم صلاّحًا ومَن عداهم خطأة بحيث لم يقبلوا حتّى ملاحظة من الأعمى حين قال لهم: "لو لم يكن الرّجل (يسوع) من اللّه لما استطاع أن يفعل شيئًا". فأجابوه: "لقد ولدتَ بجملتك في الخطايا وتعلّمنا!" لقد دانوا الأعمى وحكموا عليه بجهنّم بدل أن يفرحوا لشفائه. علينا أن لا ندين أحدًا ولا نحكم على أحد، أن لا ندّعي أنّنا نحن الصّلاّح وغيرُنا الأشرار، أنّنا نحن مصيبون وغيرنا مخطئون.
3. مشهد الأبوين
ثمّ يظهر أبوا الأعمى. كانا خائفين على حالهما من قول الحقيقة. لم يريدا أن يعترفا بيسوع كما فعل ولدهما لكي لا تهتزّ مكانتهما الاجتماعيّة. تجاهلا يسوع وفضّلا عليه وضعًا اجتماعيًّا هادئًا مريحًا، وتعاميا عن النّور الّذي يحرّر وآثرا البقاء في ظلمة الكذب. لم يريدا أن ينزعجا بقول الحقيقة، وما من شكّ بأنّ يسوع الّذي هو حقّ يزعج مَن لا يبحث عن الحقيقة أو من لا يريد أن يراها. يجب علينا أن نعلن حقيقة يسوع بلا خوف وبلا أنانيّة مهما كلّفنا الثّمن، لأنّ هذه الحقيقة هي الّتي تخلّص العالم وتعطيه الحرّيّة والكرامة والحياة.
في هذا المشهد يظهر أبوا الأعمى أيضًا أنانيّين بحيث إنّهما لم يفرحا لما حصل لولدهما الأعمى. كان جوابهما للفرّيسيّين ناشفًا وجافًّا وكأنّهما ما كانا ليكترثا أشفي ابنهما أم لم يشفَ. لم يكتفيا بأن تنكّرا ليسوع بل قد تنكّرا أيضًا لولدهما من قوّة أنانيّتهما وتحجّر قلبيهما. أغلقا نوافذ عقليهما وقلبيهما معًا، بحيث لم يستطع نور المسيح أن يلج إليهما. هذان الأبوان يمثّلان كلّ من يرى الحقيقة ويُعرض عنها خوفًا من أن يناله إزعاج أو تلحق به خسارة أو يتعرّض لمشاكل، خوفًا من أن يحمل صليبه في إثر السّيّد المسيح.
4. مشهد السّيّد المسيح
أمّا يسوع الّذي كانت كلّ هذه المشاهد تمرّ أمام عينيه فقد كان له تفكير آخر:
٤-١-أوّلًا لم ينتظر يسوع الأعمى لكي يطلب منه الشّفاء، بل أخذ في شفائه حالًا مذ رآه. وفي هذه المبادرة يظهر حبّ يسوع الّذي يعتبر شفاء الأعمى من جوهر رسالته الّتي جاء من أجل إتمامها، أعني إظهار حبّ اللّٰه ولطفه وتشريع نوافذ عالمنا على عالم الله. يسوع يضعف أكثر ما يضعف حين يرى إنسانًا معذّبًا متعبًا متألّمًا. لذلك غالبًا ما لا ينتظر فتدفعه محبّته إلى الذّهاب إليه رأسًا وشفائه. يسوع لا يتركنا أبدًا مهما كان الظّرف أو الوضع أو الحال الّذي نحن فيه متعبًا أو محزنًا أو قاتلًا. لا بل إنّه يأتي إلينا في مثل هذه الأحوال أكثر ممّا في غيرها.
٤-٢- ثمّ إنّ يسوع تعدّى شريعةَ السّبت والشّريعة عمومًا. كان خيار يسوع للإنسان واضحًا ونهائيًّا، فالإنسان هو ربّ السّبت وهو القيمة الكبرى، من أجله صار اللّٰه إنسانًا. ولقد قضى يسوع حياته يدافع عنه حتّى قضى في سبيله. لذلك علينا أن نحترم كلّ إنسان وأن نسعى إلى الارتقاء به إلى المستوى الّذي دعاه اللّٰه إليه، أعني إلى البنوّة الإلهيّة. ليس الإنسان وسيلة بل هو غاية، يستحقّ أن نضحّي بكلّ شيء في سبيله كما فعل يسوع.
٤-٣- وها هوذا يسوع يعلن: "أنا نور العالم". يسوع نور العالم يعني أنّنا لا نستطيع أن نرى حقيقة الأشياء إلّا في نوره. نور المسيح يرينا معنى الأشياء والأحداث ويرينا حقيقة الأشخاص. هذا ما نعنيه حين نقول في صلواتنا مخاطبين يسوع: "بنورك نعاين النّور". يسوع هو الّذي يهدينا إلى جادّة الصّواب ويقودنا إلى الميناء الهادي. لا تصحّ نظرتنا إلى الأمور إلّا إذا كانت منوّرة بنور المسيح، إلّا إذا كانت نظرة المسيح عينه. غالبًا ما تكون نظرتنا سطحيّة آسرة فيما نظرة المسيح عميقة محرّرة. كلّ حقيقة إنسانيّة هي نابعة من يسوع الّذي هو الحقّ والطّريق والحياة. وخارج نور المسيح ليل، "لا يستطيع أحد عملًا" فيه، كما سمعنا في الإنجيل، يعني أنّه يموت.
5. خاتمة
يوم الخميس القادم هو خميس الصّعود، صعودِ الرّبّ يسوع إلى السّماء. صعد يسوع إلى السّماء، عاد إلى أبيه، لكنّه عاد ليهيّئ لنا مكانًا كما قال لنا. هذا المكان نصل إليه إذا سرنا على نور يسوع. في هذا السّبيل ليكن شعارنا، لتكن صلاتنا الصّلاة الّتي تتلوها الكنيسة على الدّوام مخاطبة يسوع: "بنورك نعاين النّور". آمين."