سوريا
29 أيار 2023, 13:20

العبسيّ في العنصرة: ينبغي أن يجعلنا عيدنا شاهدين للمسيح في كلّ ما نقول ونعمل، في كلّ زمان ومكان

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ قدّاس أحد العنصرة في كاتدرائيّة سيّدة النّياح- حارة الزّيتون- دمشق.

وللمناسبة، كانت للعبسيّ عظة قال فيها: "تحتفل الكنيسة اليوم بعيد حلول الرّوح القدس على الرّسل. ويدعى هذا العيد أيضًا عيدَ الخمسين لأنّه يقع خمسين يومًا بعد القيامة وبه ينتهي زمن الخمسين يومًا الّذي يبتدئ في أحد القيامة. وندعوه نحن الشّرقيّين أيضًا عيد العنصرة أيّ عيد التّجمّع، دلالةً على تجمّع النّاس حول الرّسل لمّا حلّ عليهم الرّوح القدس. وإنّ هذا العيد هو القمّة الثّانية في الأعياد المسيحيّة من بعد عيد القيامة، وهو يشكّل خاتمةَ الأعياد وإفاضةَ الرّوح القدس وانطلاقةَ الكنيسة. اليوم نعيّد لحلول الرّوح القدس على التّلاميذ الّذين كانوا مجتمعين في علّيّة صهيون. وبين قيامة المسيح وحلول الرّوح عيّدنا لصعود السّيّد المسيح إلى السّماء، لعودة ابن الله الكلمة المتجسّد إلى حيث كان منذ البدء لابسًا ومصطحبًا معه الطّبيعة البشريّة. كان قد نزل إلى الأرض إلهًا فعاد من الأرض إلهًا وإنسانًا معًا.  

كان السّيّد المسيح قبيل آلامه وموته قد طمأن الرّسل الخائفين والحزانى ووعدهم بأنّه لن يدعهم يتامى (يوحنّا 14: 18)، بل سوف يرسل إليهم الرّوح القدس، بقوله لهم: "متى انطلقت فإنّي أرسله (المعزّي) إليكم... فمتى جاء هو، روح الحقّ، فإنّه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها" (يوحنّا 16: 5-15) "وهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم جميع ما قلت لكم" (يوحنّا 14: 26). وكان من قبلُ قال للنّاس المتحلّقين حوله: "إذا كنتم، وأنتم أشرار، تعرفون أن تُعطوا أولادكم ما هو حسنٌ، فكم بالحريّ أبوكم السّماويّ يُعطي الرّوحَ القدسَ للّذين يسألونه؟" (لوقا 11: 13).  

نستنتج من كلام يسوع أنّ الرّوح القدس هو عطيّة، موهبة من الله تعالى، وهو أجمل هبة وأعظم عطيّة في وسع الله أن يُهديهما إلى البشر. ذلك أنّ الرّوح القدس هو الله نفسه، فإنّ الله بعطائه لنا الرّوحَ القدس يعطينا ذاته. وحلول الرّوح القدس لا يعني أنّ الله أعطانا ذاته وحسب، بل يعني أيضًا أنّ الله حاضر معنا منذ الآن بروحه القدّوس، يعني أنّ الرّوح القدس هو حضور الله الدّائم والأبديّ بيننا.

في العهد القديم أنزلت الشّريعة على موسى في اليوم الخمسين، شريعة كتبت على لوحين من حجر. أمّا اليوم، في عيد الخمسين، فقد نزل الرّوح القدس علينا جميعًا، نزل واضعُ الشّريعة نفسه، ولم يعد حضوره فيما بيننا بواسطة شريعته، أيّ بواسطة أوامر ونواهٍ، بل أصبح حضوره حضورًا شخصيًّا، حضورَ أب يحبّ أبناءه بقلبه وأحشائه. وهذا ما تنبّأ به النّبيّ حزقيال إذ قال: "أُعطيكم قلبًا جديدًا، وأَجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزِع من لحمكم قلبَ الحجر، وأُعطيكم قلبًا من لحم، وأجعل روحي في أحشائكم" (36: 24-28). أجل أصبح الله ساكنًا فينا بالرّوح القدس، أصبح في أحشائنا أيّ في أعمق أعماقنا، وهو الّذي يهبنا النِّعم ويفعل فينا كلّ عمل صالح.

إنّ كنيستنا الّتي اعتدنا أن نلتقي ونصلّي فيها هي تلك العلّيّة الّتي اعتاد الرّسل أن يجتمعوا ويصلّوا فيها. وكما كان هؤلاء الرّسل كلّهم معًا يصلّون حين حلّ عليهم الرّوح القدس، كذلك نحن الآن نصلّي كلّنا معًا بقلب واحد وفم واحد لكي يحلّ علينا الرّوح القدس. وكما أنّ الرّوح القدس قد جعل من الرّسل كنيسة واحدة، بعد إذ كانوا أفرادًا متجمّعين، كذلك هذا الرّوح عينه هو الّذي يجمعنا اليوم في رعيّة واحدة، في كنيسة مصغّرة، لا أعدادًا يضاف بعضها إلى بعض، ولا أفرادًا مجتمعين، بل أعضاء ملتحمين ومتفاعلين في جسد المسيح الواحد.  

وإذا كان عيدنا اليوم عنصرة حقيقيّة، علينا أن نحصل فيه على ما حصل عليه الرّسل، وأن نخرج من الكنيسة كما خرج الرّسل من العلّيّة. لقد حصل الرّسل على تغيير جذريّ في حياتهم، يوم حلّ عليهم الرّوح القدس: صاروا شجعانًا جريئين، وأحسّوا بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم، وأصبحوا أكثر التزامًا، وشعروا أنّهم ما عادوا يملكون أنفسهم بل أصبحوا ملكًا للسّيّد المسيح. وهكذا نحن اليوم.  

ولقد خرج الرّسل من العنصرة، من العلّيّة، ليشهدوا للمسيح القائم من بين الأموات، ويكرزوا للنّاس بكلمة الخلاص المحيية، وقد أَخذ الرّوح الّذي حلّ عليهم يعلّمهم ما ينبغي أن يقولوه، كما وعدهم يسوع: "ستنالون قدرة الرّوح القدس الّذي سيأتي عليكم فتكونون... إلى أقصى الأرض" (أع 1:  وهكذا نحن اليوم، ينبغي أن يجعلنا عيدنا شاهدين للمسيح في كلّ ما نقول ونعمل، في كلّ زمان ومكان، بكلّ الوسائل المتاحة لنا.

إنّ الكنيسة منذ قيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات انقطعت عن تلاوة الصّلاة الافتتاحيّة في كلّ صلواتنا الطّقسيّة وهي صلاة استدعاء الرّوح القدس: "أيّها الملك السّماويّ المعزّي...". أمّا اليوم فتعود إلى تلاوتها بعد أن تركع وتبتهل بحرارة إلى الله أن يُرسل إليها الرّوح القدس ليقدّسها ويقوّيها ويمنحها الفهم والحكمة. في ختام هذه اللّيتورجيّا سوف نركع كلّنا معًا ونطلب ونبتهل لكي يرسل الله الآب إلينا روحه القدّوس فنستطيع اليوم وفي كلّ يوم، الآن وفي كلّ أوانٍ، أن نصلّي إلى الرّوح القدس متضرّعين وقائلين في افتتاح كلّ صلاة: "أيّها الملك السّماويّ المعزّي، روح الحقّ الحاضر في كلّ مكان، والمالئ الكلّ، كنز الصّالحات وواهب الحياة، هلمَّ واسكن فينا، وطهّرنا من كلّ دنس، وخلّص أيّها الصّالح نفوسنا. آمين.  

كلّ عام وأنتم بخير."