العبسيّ في قدّاس الميلاد من الرّبوة: مدعوّون لبناء الوطن
عاون العبسيّ: أمين سرّ مجلس المطارنة المطران جاورجيوس إدوار ضاهر وراعي أبرشيّة بيروت وجبل لبنان المطران جورج بقعوني، ولفيف من الكهنة والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، بحضور وزير الدّفاع ميشال منسّى ممثّلًا الرّؤساء الثّلاثة وعدد من الفعاليّات، وحشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى العبسيّ عظة جاء فيها: "ما أطيب وما أجمل أن يجتمع الإخوة معًا". قول الكتاب المقدّس هذا هو لسان حالنا في هذا الصّباح المبارك حيث نلتقي كلّنا معًا في هذه اللّيتورجيّا الإلهيّة مصدر فرحنا وسلامنا. نلتقي لنصلّي بعضنا من أجل بعض، لنعايد بعضنا بعضًا ونعبّر عن محبّتنا بعضنا لبعض وعن تضامننا بعضنا مع بعض وعن رغبتنا في أن نسير دومًا معًا نحو مستقبل أجمل وأفضل، كنيسةً ووطنًا.
نعيش في هذه الأيّام زمن التّهيئة لميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد. تدعونا الكنيسة ابتداء من اليوم بنوع خاصّ إلى أن نعيش حدث الميلاد مثلما عاشه الّذين رافقوه وعاصروه فلا نكتفيَ بأن نجعل منه ذكرى أو فكرة أو خاطرة. ترى الكنيسة أنّ السّيّد المسيح يولد "اليوم" فتقول: "اليوم العذراء تأتي إلى المغارة"، "اليوم البتول تلد الفائقَ الجوهر"، عارضة أمام أعيننا ما حدث وحصل في تلك الأيّام الّتي وُلد فيها الرّبّ يسوع المسيح ليوسف ومريم والمجوسِ والرّعاة والملائكة بصور حسّيّة وليس فقط بكلام مجرّد، وداعية إيّانا إلى المشاركة الفعليّة ومنادية: "هلمّ أيّها المؤمنون ننظر أين يولد المسيح. ولنتبع إذن الكوكب إلى حيث يسير مع المجوس ملوك المشرق، فهنالك رعاة يسهرون وملائكة يسبّحون".
مع المجوس، بحسب التّقليد الكنسيّ، لم يكن المجوسُ أتباع ديانة سماويّة إنّما علماءَ فلك، من بلاد فارس أو بابل على الأرجح، يرصدون حركة الكواكب والنّجوم، وكانوا أيضًا حكماءَ يبحثون عن الحقيقة. وإذا بهم في أحد الأيّام يقعون على هذه الحقيقة بواسطة كوكب فريد رأوه يسطع في السّماء فتبعوه وذهبوا في طلب الحقيقة إلى أن وجدوها في السّيّد المسيح. ويخبرنا الإنجيل أنّهم عند ذاك "خرّوا وسجدوا له ثمّ فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا من الذّهب واللّبان والمرّ" (متّى2: 11)، اعترافًا منهم بأنّه هو الحقيقة الّتي كانوا يبحثون عنها. ويخبرنا الإنجيل أيضًا أنّهم بعد ذلك لم يقوموا بأيّ عمل سوى أنّهم "أُوعز إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فقفَلوا في طريق أخرى إلى بلادهم" (متّى2: 12)، وكأنّي بهم اطمأنّوا وارتاحوا لمّا اكتشفوا الحقيقة ووجدوها، لمّا "عرفوا أنّ يسوع هو المشَرق الّذي من العلاء" كما ترنّم الكنيسة في نشيد العيد. بمعنى آخر اطمأنّ قلبهم وهدأ فكرهم لمّا عرفوا أنّ هناك حقيقةً.
أجل نحن نؤمن بأنّ هناك حقيقة، حقيقة ماورائيّة، حقيقة سياسيّة، حقيقة أخلاقيّة، حقيقة فكريّة، حقيقة اجتماعيّة، حقيقة وطنيّة، لكن يبدو أنّ البعض ينكرون وجود مثلِ هذه الحقيقة مروّجين لحقيقة من صنعهم يصنعونها تبعًا لمصالحهم ورغباتهم ونزواتهم ويفرضونها بما لهم من مال وسلطة وقوّة طالبين من النّاس أن يؤمنوا بها، في حين أنّ الحقيقة لا تُفرَض من الخارج بل تتجلّى. من أجل ذلك هي محرّرة وأتباعها أحرار كما قال السّيّد المسيح: "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم". قد يكون هناك وجهات نظر مختلفة متأثّرة أو مطبوعة بالمكان والزّمان والظّرف والحال، أمّا الحقيقة فهي واحدة علينا جميعًا أن نسعى إليها، أن نكتشفها وأن نجهر بها من دون خوف أو وجَل".
وقال: "في المغارة وَجد المجوسُ الحقيقة ووجدوا معها الحرّيّة الّتي جعلتهم لا ينصاعون لأقوال هيرودس وأوامره فعادوا إلى بلادهم غير مكترثين به فرحين "فرحًا عظيمًا جدًّا" كما يخبر الإنجيل. لكنّهم لم يكونوا وحدهم في المغارة بل كان أيضًا إلى جانبهم الرّعاة. الحقيقة تجمع النّاس كلّهم على تنوّعهم. في المغارة حيث تجلّت الحقيقة وأُطلقت الحرّيّة التقى المجوس الحكماء الأغنياء والرّعاة البسطاء الفقراء الّذين تدعونا الكنيسة إلى الالتفات إليهم أيضًا في هذه الأيّام. الحقيقة لا يكتشفها الحكماء والأغنياء فقط بل تتجلّى أيضًا للمتواضعين والصّغار: "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله"، "أشكرك اللّهمّ لأنّك أخفيت هذه عن الحكماء وكشفتها للأطفال". في النّاس، في الشّعب حسّ مشترك يدلّ على الحقيقة. من هنا ينبغي علينا أن نسمع صوت النّاس، صوت وجعهم وحزنهم وكذلك صوت فرحهم وراحتهم إذا ما أردنا أن تكون معرفتنا للحقيقة أعمق. ليست الحقيقة فكرة مجرّدة بل هي لقاء مع النّاس. هذا ما يسمّيه البعض الدّيمقراطيّة. ليست الدّيمقراطيّة في الانتخابات والاستفتاءات فقط بل أيضًا وخصوصًا في الإصغاء إلى معاناة الشّعب والنّاس ولاسيّما الفقراء والمهمّشين والمحرومين. في صوت هؤلاء قبس من الحقيقة لا يسعنا أن نُشيح ببصرنا عنه. ليست الحقيقة في رأس الهرم فقط بل أيضًا في قاعدته. هذا ما سعت الكنيسة وتسعى إلى الإضاءة عليه والتّشديد عليه بعقدها سينودسًا خاصًّا بما سمّته السّينودسيّة في الكنيسة حيث للجميع صوت وكلمة ورأي ووجهة نظر.
قلنا إنّ للحقيقة أكثرَ من وجه ومن وجوهها الحقيقة الوطنيّة، حقيقة الوطن الّتي يلازمها ويؤلّف جزءًا منها بناءُ الوطن. نحن مدعوّون إلى اتّباع هذه الحقيقة: أن نبني وطنًا بالتّخلّي عن الأنانيّة المدمّرة، برفض منظومة الفساد، بنبذ العصبيّات والطّائفيّة المقيتة، بالعمل الدّؤوب لمصلحة الوطن الجامعة بالالتفاف حول الدّولة الواحدة، وكذلك بالاجتهاد في الصّدق والشّفافيّة، حتّى نكون مواطنين صالحين يتحمّلون المسؤوليّة، يطالبون بالحقّ، ولا يكتفون بالشّكوى والعويل، متذكّرين في الوقت عينه أنّ القوّة الحقيقيّة لا تولد من العنف والتّسلّط، بل من الرّحمة الإلهيّة الّتي فتحت لنا باب المصالحة الأبديّة بولادة المخلّص، وواضعين أمام أعيننا قول قداسة البابا لاون الرّابع عشر في أثناء زيارته إلى لبنان: "لبنان قادر على النّهوض". فالنّهوض الحقيقيّ ليس مجرّد شعار يُردّد، بل هو فعل إيمان راسخ بقدرة هذا الوطن على أن ينتفض ويقوم من جديد. ولنا اليوم في رئيس البلاد فخامة الرّئيس جوزيف عون ومن معه في الحكم خير من يسعَون جهدهم ويجنّدون الطّاقات لمثل هذا النّهوض فلهم الشّكر الجزيل".
وشدّد العبسيّ على أنّ "من حقيقة لبنان الحوارُ المنتج والتّشارك الفاعل في القرارات المصيريّة. لبنان، بتعدّديّته الفريدة وغناه الثّقافيّ، لا يمكن أن يُدار إلّا عبر نبذ ثقافة العنف والتّعصّب، واحترام كرامة المواطن وحقوقه، والتّحلّي بفضيلة الحكمة في معالجة القضايا الخلافيّة، والعودة دومًا إلى المرجعيّة الدّستوريّة الّتي ارتضيناها جميعًا. الدّستور هو العقد الاجتماعيّ الّذي يصون الجميع ويطمئن الجميع ويؤكّد أنّ لبنان بلد ديمقراطيّ قائم على سيادة القانون الّذي يجب احترام استحقاقاته ومضامينه كلّها بدقّة وأمانة من دون انتقائيّة أو مزاجيّة فنبقى هكذا محافظين على المسار السّياسيّ الصّحيح ولا يفلت زمام الأمور من أيدينا".
وقال: "في إطار إظهار الحقيقة الوطنيّة نُثمّن عاليًا جهود الجيش اللّبنانيّ وتضحياته المتواصلة من أجل حفظ الأمن وإرساء السّلام، خاصّة في الجنوب والبقاع اللّذين ما زالا يعانيان الويلات من الاعتداءات. الحاجة إلى السّلام العادل والشّامل كانت وما زالت أولويّة قصوى تستلزم اليقظة وتدعيم البيت الدّاخليّ في ظلّ المتغيّرات السّريعة في المنطقة الّتي لا تخدم مصالحنا إن نحن تأخّرنا عن مواكبتها. هذا يتطلّب التّمسّك بمبادئ واضحة قوامها السّلام وإحقاق العدل".
وإختتم: "في هذه الأيّام الخلاصيّة، إذ نتوجّه إلى الجميع بالتّهنئة الميلاديّة، نطلب إلى الله أن يُطلع علينا نور المعرفة الإلهيّة. معرفة الحقيقة في حاجة إلى نور إلهيّ. هذا النّور ظهر في ميلاد السّيّد المسيح كما نقول في نشيد العيد: "ميلادك أيّها المسيح إلهنا قد أظهر نور المعرفة للعالم". في زمن التّهيئة للميلاد الّذي نحن فيه لنصلِّ من أجل أن ننال هذا النّور لنقضي به على الظّلمة الّتي تخيّم على العالم. في زمن الميلاد، نرفع صلاتنا إلى كلمة الله المتجسّد، سائلين إيّاه أن يغمر بنوره لبنان والمسؤولين عن أمنه وازدهاره وسياسته. متسلّحين بالرّجاء الّذي لا يَخزى وبوعد السّيّد المسيح، الإله الّذي قبل الدّهور، المولود طفلًا من أجل خلاصنا، أن يبقى معنا مدى الدّهر فلا نخاف، نصلّي لأجل أن يُنير الله بصائرنا ويهدينا إلى ما فيه صلاح الوطن ووحدة أبنائه، لكي يولد السّلام العادل النّاجم عن الحقيقة من جديد في قلوبنا وأرضنا".
