لبنان
22 آب 2023, 12:55

العبسيّ في لقاء كاثوليكيّ موسّع : التّاريخ قوّة جارفة لا تنظر إلى الوراء تخلّف في مجراها الصّالح والطّالح

تيلي لوميار/ نورسات
رأى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسيّ أنّ التّاريخ قوّة جارفة تسير لا ترحم لا تنظر إلى الوراء تخلّف في مجراها الصّالح والطّالح. التّاريخ مثلُ الكون الذي يجري فيه: طاقة منطلقة تتفجّر وتتجدّد من يوم إلى يوم إلى اللّانهاية، إلى الله. وقوّة الإنسان هي في أن يمسك الحاضر، اليوم الذي هو فيه، بحيث يرى كم من أشياء وأشياء ممّا نسمّيه عادات ومكتسبات ومؤسّسات ما عادت مثلما كانت في يوم أمس لأنّ الحيثيّاتِ لم تعد كحيثيّات الأمس ولا السّلوكيّاتِ.

كلام العبسيّ جاء خلال لقاء كاثوليكيّ موسع في دارة النّائب ميشال ضاهر في الفرزل حضره النّواب ميشال موسى وسامر التّوم والمطارنة ابراهيم ابراهيم وايلي حداد وادوار ضاهر وجورج حداد وجورج اسكندر، عضو المجلس العسكريّ اللّواء الركن بيار صعب، مدير عام جهاز أمن الدّولة اللّواء طوني صليبا، مفتّش عام قوى الأمن الدّاخليّ فادي صليبا، نقيب أطبّاء لبنان في بيروت البروفسور يوسف بخاش، رئيس بلديّة زحلة المعلقة المهندس اسعد زغيب، رئيس بلديّة الفرزل ملحم الغصان، مدّعي عام البقاع منيف بركات القاضية هيلانة اسكندر، القاضي فوزي خميس والمدراء العامّين داني جدعون وناجي اندراوس ولويس لحود رئيس المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ السّابق روجيه نسناس، إضافة الى رؤوساء عامّين وكهنة الرّعايا وعدد من الأمنيّين ورجال الأعمال وإعلاميّين وحشد من فاعليّات الطّائفة.

 

ضاهر 

وألقى النّائب ميشال ضاهر كلمة قال فيها : مساء الخير وأهلا وسهلا بجميعِ الحاضرين، وأخصّ بالذكر صاحبَ الغبطة البطريرك يوسف العبسي الذي يُقامُ هذا العشاء على شرفِه.

شئنا أن يكونَ هذا اللّقاءُ كاثوليكيًّا جامعًا، قدْرَ المستطاع، لنجتمعَ حولَكم صاحبَ الغبطة، تكريمًا لكم من جهة ولإيصالِ صوتِنا، وأؤمنُ بأنّ ما سأقولُه يوافقُني عليه كثيرون.

الطّائفة يا سيّدَنا ليست بخير. تُحرَم الكفاءاتُ فيها من الحقائب الوزاريّة المهمّة التي باتت حكرًا على مذاهب محدّدة، وفي ذلك إجحافٌ نحمّل مسؤوليّتَه إلى كثيرين، ومن بينهم الزّعماء الموارنة الذين يشاركون في تشكيلِ الحكومات.

وفي الإدارات يتراجعُ عددُنا ونفقُدُ مواقعَنا، خصوصًا في الفئةِ الأولى.

وفي السّلكِ الدّبلوماسي نُظلَم. 

فهل أصبحنا طائفةً هامشيّة، لا يُحسَب لنا حسابٌ، وكأنّ حضورَنا أو غيابَنا هو نفسُه؟

أم أنّ صمتَنا ومنح الأولويّة لهمومِ الوطنِ والنّاس جعلا "حيطنا واطي"، يقفز فوقَه القريبون والبعيدون؟

إنّ مواجهةَ هذا الواقع تتطلّبُ تضافرًا للجهود ووحدةً حول المطالب، ورعايةً ودعمًا منكم صاحب الغبطة، وخصوصًا صوتًا مرتفعًا. إعتدنا في هذا البلد على أنّ من لا يرفع صوتَه لا يبالي به أحدٌ.

ونحتاجُ أيضًا إلى جسمٍ كاثوليكيٍّ صلب، يؤدي دورًا وطنيًّا ويحفظ حقوق ووجود الطّائفة، على ضرورة أن يتخطّى الدّورُ إصدارَ البيانات إلى ممارسةِ الضّغط والدّفاع عن حقوقِ الطّائفة، ما دمنا في بلدٍ طائفيّ حتّى العظم.

ولا تَشغُلُنا همومُ الطّائفة، وما تسبّبه من قلقٍ، عن هموم الوطنِ والمواطن.

إنتخابُ رئيس الجمهوريّة هو مدخلٌ لأيّ حلّ. ولكنّنا، في الوقتِ عينِه، لا نريد أيَّ رئيس. هذه فرصة للنّهوض يجب ألّا نضيّعها، فلنُحسِن اختيارَ الشّخص المناسب، المجرَّب، الوطنيّ والجامع.

ولتكن حكومةٌ تضمّ أصحابَ كفاءات وتملك خطّةً واضحة، وتعمل على تحسينِ علاقات لبنان الخارجيّة، وخصوصًا مع دولِ الخليج. لا نريدُ لبنان منصّةً لحروبِ الآخرين، وقد دفعنا ثمنَها طويلاً. وهو أصغرَ من أن يدخُلَ في لعبةِ المحاور، فيضيع بين أرجُلِ الدّولِ الكبرى.

ولا بدّ هنا من إبداءِ خشيتِنا على الوضع الأمنيّ، في ظلِّ الأحداث التي شهدناها في الفترةِ الأخيرة. ونكرّر ما هو معروفٌ عنّا. نعتمدُ على القوى الأمنيّة الشّرعيّة، وعلى رأسِها الجيش اللّبنانيّ، ونحيّيها كلَّها على ما تبذُلُه من تضحياتٍ خصوصًا في هذه الظّروف الصّعبة.

كما نبدي قلقَنا الكبير على الوضعِ الماليّ والاقتصاديّ، الذي يتطلّب حلولاً سريعة تبدأ أيضًا بانتخابِ الرّئيس، قبلَ أن يحصلَ الارتطام الذي بدأنا التحذيرَ منه قبل ١٧ تشرين وما تبعه من تطوّرات.

صاحب الغبطة، أيّها الحضور الكريم، لكم في قلوب أصحاب هذا المنزل مكانةً. ولكم في الفرزل بيتًا وأخًا. 

تعالوا نتكاتف، كلٌّ من موقعِه، لنُعليَ شأنَ هذه الطّائفة، فتزداد مساهمَتَها في بناءِ هذا الوطن. ولنقف، كلٌّ وفقَ قدرتِه، إلى جانبِ ناسِنا، مع تقديرِنا لما يقومُ به كثيرون في هذا المجال، وخصوصًا السّادة المطارنة، وممّا لا شكّ فيه أنّ أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع تعطي نموذجًا يستحقُّ التّقدير. 

وفي الختام، أكرّرُ باسمِ عائلتي الصّغيرة التّرحيبَ بعائلتي الكبيرة. شكرًا على حضورِكم، وأتركُ الكلمةَ لصاحبِ الغبطة.

 

العبسيّ 

بدوره ألقى البطريرك العبسيّ كلمة قال فيها :

"ما أطيب وما أجمل أن يجتمع الإخوة معًا". هذا ما قاله صاحب المزامير النّبيُّ داود في الماضي، وهذا ما أشعر به الآن في الحاضر وما أحياه وما أردّده باعتزاز وسرور في هذه الدّار العامرة، دار الأخ العزيز سعادة النّائب ميشيل الضّاهر المحترم وعقيلته المصونة مارلين، الذي رغب في أن يجمعنا على الإلفة والفرح، نرى بعضنا بعضًا وجهًا لوجه ونتحدّث بعضنا مع بعض من قلب إلى قلب، بحيث نشعر بأنّنا كلَّنا أسرة واحدة وكنيسة واحدة ووطن واحد، وبحيث يقول من يرانا أو يسمعنا: هؤلاء همُ الرّوم الملكيّون الكاثوليك.

ما أطيب وما أجمل أن يجتمع الإخوة معًا". وهل أطيبُ وأجمل من أن يجتمع إخوتي السادة المطارنة الأجلّاء وأبنائي الرؤساءُ العامّون المحترمون والكهنة والرهبان الأفاضل الذين هم زينة كنيستنا وفخرها والأساس الذي تقوم عليه؟ وهل أطيب وأجمل من أن تجتمعوا أنتم أيّها الأبناء الأحبّاء أنتم الذين من الكنيسة وليس خارج الكنيسة ولا بإزاء الكنيسة، نحمل كلُّ واحد منّا موهبة، وزنة، عملًا، دورًا، رأيًا، ننمو ونفرح معًا، متكاملين عاملين بعضنا مع بعض. فالشّكر لكم جميعًا على حضوركم في هذا المساء وفي هذه الدّار. وكيف لا يسعنا من ثمّ والحال هذه أن نقول: هؤلاء هم الرّوم الملكيّون الكاثوليك؟

أجل هؤلاء نحن وهذه هي قوّتنا. نحن لسنا، حضورنا ليس، قوّتنا ليست في أن نحصل على المنصب الفلانيّ أو الوظيفة الفلانيّة أو المقعد الفلانيّ في الدّولة أو في المجتمع وليست في أن نكون من هذا الجانب أو ذاك، بل نحن، بل حضورنا، بل قوّتنا في الدّولة وفي المجتمع في ما نقدّمه لهما وفي ما نغنيهما به، بالرّغم من أنّنا لم نقصّر قطّ في المطالبة وفي السّعي إلى الحصول على ما يعود لنا في الدّستور وفي القانون وما دامت العادة والعقليّة هما ما هما عليه حتّى الآن. وإذا ما نظرنا إلى الأمور بواقعيّة، وإذا ما نظرنا إليكم أنتم الحاضرين، نرى ونلمس أنّ كنيستنا، أنّكم أنتم أيّها الأحبّاء، قد أعطيتم الكثير للبنان في الأدب والفنّ والعلم والسّياسة والتّجارة والصّناعة والزّراعة والإدارة، من غير أن ننتظر منصبًا أو نطمح إلى مقعد. إنّ هذه المنطقة، هذه الأبرشيّة، أبرشيّة الفرزل وزحلة وسائر البقاع، تشهد بنوع خاصّ على ذلك والأسماء كثيرة. بل قد أعطت هذه الأبرشيّة ما هو أثمن ما يمكن الثّمين أن يكون، أعطت قداسة بمن خدموها من الأساقفة والكهنة والرّهبان، أعطت الأب بشارة أبو مراد المخلّصي ابن زحلة البارّ. أجل، أيّها الأحبّاء، عندنا نحن أيضًا ما يجعل الآخرين يتشبّهون بنا ويُعجبون بنا ويقدّروننا، عندنا ما نعتزّ ونفتخر به وما يجعل الآخرين يقولون: هؤلاء هم الرّوم الملكيّون الكاثوليك.

هؤلاء الرّومُ الملكيّون الكاثوليك، في العام القادم 2024 يكون قد مرّ على نشأتهم ثلاثمائة سنة. كنيستنا الرّوميّة الملكيّة الكاثوليكيّة نشأت في العام 1724 كفرع من الجَذع الأنطاكيّ الرّسوليّ. وقد رغب سينودس كنيستنا في أن يكون العام 2024 مناسبة، فرصة، "خلوة واسعة" للتّذكّر والتّفكير في ما حذث منذ ثلاثمائة سنة وفي ما جرى في الثّلاثمائة سنة المنصرمة. في تاريخ نشأتنا ومسيرتنا ألم من دون شكّ، ألمُ الولادة الذي لا يفارقنا. لم نجد له علاجًا حتّى الآن من جرّاء تشابك الأمور. إلّا أنّنا لن نكفّ عن السّعي الحثيث إلى أن نبلغ إلى الوحدة الكاملة في الإيمان بالمحبّة. فالسّنة القادمة إذن سوف تكون ملأى بالنّشاطات الكنسيّة المتنوّعة في أبرشيّاتنا في العالم كلّه. من أهمّ النّشاطات الرّبط بين بلادنا وبلاد الانتشار على مستوى الشّباب الملكيّ. الغاية من هذا الرّبط هي على الأخصّ أن نُظهر وأن نعيش وجه كنيستنا الجامع، بل وجهَ الكنيسة الجامعة الجامعَ، وجهَ كنيستنا التي لا تعتقد بالانعزال ولا بالتّقوقع ولا بالعصبيّة ولا بالفئويّة ولا بالطّبقيّة، وجهَ كنيستنا التي لا تعترف بحدود أو قيود تحصرها في حجمها الأصغر أيًّا كان نوع الحدود أو القيود، وجهَ كنيستنا كنيسة الفرح والسّلام والأخوّة حيث يجد كلّ فرد مكانه ومكانته وقيمته وكرامته. غالبًا ما نخلط بين التعصّب والانتماء. نحن لا نتعصّب لكنيستنا ولا لشيء آخر بل ننتمي إلى كنيستنا. التّعصّب يقصي الآخر، يرفض الآخر، لا يرى الآخر، لا يسمع الآخر، أمّا الانتماء فإنّه يقبل ويستقبل الآخر، يسمع ويحاور الآخر، يرى مكانًا له وللآخر، يضع يده بيد الآخر. التّعصّب يقتل حتّى صاحبه أمّا الانتماء فيحيي ابتداء من صاحبه. نحن من الذين ينتمون إلى كنيستهم لا من الذين يتعصّبون لكنيستهم.

التّاريخ قوّة جارفة تسير لا ترحم لا تنظر إلى الوراء تخلّف في مجراها الصّالح والطّالح. التّاريخ مثلُ الكون الذي يجري فيه: طاقة منطلقة تتفجّر وتتجدّد من يوم إلى يوم إلى اللّانهاية، إلى الله. وقوّة الإنسان هي في أن يمسك الحاضر، اليوم الذي هو فيه، بحيث يرى كم من أشياء وأشياء ممّا نسمّيه عادات ومكتسبات ومؤسّسات ما عادت مثلما كانت في يوم أمس لأنّ الحيثيّاتِ لم تعد كحيثيّات الأمس ولا السّلوكيّاتِ. لننظر على سبيل المثال ماذا يجري على بعد ساعات من عندنا من متغيّرات في ما يتعلّق بالعائلة والجنس والتّربية وقد طلعت بعض الأصوات في بلدنا تنادي بها. تحدّياتٌ جديدة: الهجرة، البطالة، الطّبابة، الدّراسة، الشّباب، بناء الدّولة، الانتماء... لا بدّ من أن نتجنّد لها كلّنا معًا بعقليّات جديدة وطرق عمل جديدة ووسائل جديدة قادرة على التّغلّب عليها. التّرحّم على الماضي لا ينفع ولا التّغنّي بالماضي يُجدي. الحاضر يحتاج إلى فكرٍ نصنعه نحن خاصٍّ بنا، نبني به نعيش به ونوجّه به، فكرٍ لا يُصنع من الانتقاد الباطل ولا من الأحكام المسبقة بل يُصنع من النّظر إلى الوقائع والإيجابيّات في الكنيسة ومن البناء عليها والانطلاق منها. يومنا يحتاج إلى فكرٍ يعي أنّ الكنيسة ليست منتدًى ولا حزبًا ولا وزارة ولا برلمانًا بل جسد المسيح، فكرٍ لا يقوم على ماذا تعطيني الكنيسة بل على ماذا أعطي أنا الكنيسة، لا على ما أريد أنا من الكنيسة بل على ما تريد الكنيسة منّي.

أعود فأشكر الابن المحبوب ميشيل الضّاهر وعقيلته مارلين على دعوتهما وأشكركم جميعًا على مشاركتكم في هذا اللّقاء الأخويّ الذي يعبّر عن محبّتنا بعضنا لبعض وعن تضامننا بعضنا مع بعض وعن تكاتفنا بعضنا مع بعض. لقاء نابع ليس من رغبة في التّباهي ولا في لفت النّظر ولا في التّمايز بل من حاجة داخليّة، من إحساس داخليّ، من قناعة داخليّة بأنّنا أو نكون معًا أو لا نكون. وإنّي إذا أسأل الله أن تكون كنيستنا، مع هذه الدّار وكلّ دورنا، عامرة بالفرح والسّلام والرّجاء والمحبّة، أختم بكلمة من شمس الدّين التّبريزي (متصوّف وشاعر، معلّم جلال الدّين الرّوميّ، من القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر) أوحت لي حقيقةً تضعنا في كلّ لحظة أمام خيارين: "من أراد هَجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد وِدّك ثقب في الصّخرة مدخلًا". فأيّ من الوِدّ أو الهجر يريد الرّوم الملكيّون الكاثوليك؟ وهل سوى الوِدِّ يريد الروم الملكيّون الكاثوليك؟"