لبنان
08 تموز 2019, 09:29

العبسيّ من البترون في قدّاس البحر: الصّيّادون هم الأقرب إلى يسوع وعندهم الكثير نتعلّمه منهم لحياتنا المسيحيّة

كعادتها السّنويّة، احتفلت رعيّة مار إسطفان- البترون، في ميناء البترون المجاور لها، بقدّاس البحر على نيّة البحّارة وصيّادي الإسفنج الّذين قضوا في البحر، ترأّسه البطريرك يوسف العبسيّ، وعاونه فيه راعي أبرشيّة البترون المطران منير خيرالله، وراعي أبرشيّة طرابلس وتوابعها للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إدوار ضاهر، وكهنة رعيّة البترون الخوري بيار صعب، والخوري فرانسوا حرب، والخوري يوحنّا الحاج بطرس. وقد شاركت في القدّاس شخصيّات سياسيّة وعسكريّة واجتماعيّة، إضافة إلى أبناء المدينة والجوار.

 

في البداية، رحّب المطران خيرالله بالبطريرك العبسيّ في رعيّة البترون، فقال نقلاً عن "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "تترأّسون قدّاس البحر السّنويّ الّذي تعوّدنا أن نحتفل به منذ سنوات بعيدة، لنذكر بحّارتنا والغطّاسين البترونيّين من صيّادي سمك وصيّادي إسفنج الّذين أرادوا أن يعيشوا مغامرة البحر، على مثال رسل السّيّد المسيح، ويخاطروا بحياتهم ويتحدّوا العواصف، وهم شهداء المحبّة والتّضحية والعيش الحرّ الكريم. فأنتم في بلدتكم البترون، يا صاحب الغبطة، المدينة الفاتحة ذراعيها وبحرها لاستقبال كلّ النّاس بقلب مفعم بالمحبّة والاحترام وحسن الضّيافة.
قلبكم الكبير والتّواضع الّذي تمثّلون به، وعمق التزامكم بالأبوّة الرّوحيّة ليس فقط لأبنائكم الملكيّين الكاثولكيّين بل أيضًا لجميع المسيحيّين واللّبنانيّين، والصّداقة الّتي تربطنا بكم منذ أكثر من ثلاثين سنة، تجعلني أشهد أنّ ترؤّسكم لقدّاس البحر اليوم سيضفي جوًّا من المحبّة والسّلام، وسيزرع في قلوبنا جميعًا الرّجاء بأنّنا بعد مواجهة العواصف الهوجاء في هذا الزّمن الرّديء، سنصل إلى ميناء الإيمان بفضلكم أنتم يا آباء الكنيسة في لبنان، وعلى رأسكم غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي رئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان الكلّيّ الطّوبى.
مع ذكرى شهدائنا البحّارة، لا يسعنا إلّا أن نشكر الرّبّ على نعمة أغدقها البارحة على أبرشيّة البترون، أبرشيّة القدّيسين، بإعلان البطريرك الياس الحويّك، ابن الأبرشيّة وأب لبنان الكبير، مكرّمًا على طريق القداسة. هذا ما يجعلنا نصلّي في هذا القدّاس من أجل رعاتنا الرّوحيّين والمسؤولين السّياسيّين والمدنيّين بيننا كي يعملوا معًا على الحفاظ على لبنان الوطن الرّسالة في الحرّيّة والكرامة والعيش الواحد في احترام التّعدّديّة، ومن أجلنا جميعًا نحن اللّبنانيّين، كي نكون مؤمنين ملتزمين ومواطنين مخلصين وصادقين في خدمة رسالة المحبّة والسّلام.
بعد الإنجيل، كانت للعبسيّ عظة قال فيها: "يسعدني جدًّا أنا وأخوي المطرانين منير خيرالله وجاورجيوس ضاهر أن نكون اليوم في ما بينكم، على هذا الشّاطىء الجميل، في هذه المناسبة السّعيدة المضاعفة بإعلان السّعيد الذّكر البطريرك الياس الحويّك مكرّمًا، نحتفل معًا باللّيتورجيا الإلهيّة، نسمع كلام الرّبّ يسوع ونتناول جسده المقدّس الّذي يوحّدنا نحن المسيحيّين جميعًا. أشكر سيادة الأخ المطران منير خيرالله الجزيل الاحترام على أنّه شرّفني بأن دعاني إلى الاحتفال بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة وبأنّه يشاركني فيها الآن. أشكر أخي صاحب السّيادة المطران جاورجيوس الجزيل الاحترام على حضوره ومشاركته.
يخبرنا الإنجيل أنّ الرّبّ يسوع المسيح، لمّا ابتدأ رسالته العلنيّة، اتّخذ لنفسه مسكنًا أو موطئ قدم في مدينة كفرناحوم الّتي على شاطئ بحيرة طبريّا. ويخبرنا الإنجيل أيضًا أن يسوع غالبًا ما كان يتمشّى على شاطئ تلك البحيرة كغيره من أبناء المدينة والمدن الأخرى الّتي كانت على ساحلها. ولا شكّ أنّه كان يخالط النّاس هناك، يجلس معهم ويجاذبهم أطراف الحديث ويتأمّلهم يذهبون إلى البحيرة ويأتون منها، يصلحون شباكهم للصّيد أو يفرغونها من السّمك. فكان يعرف عاداتهم وأحوال معيشتهم وأطباعهم وأخلاقهم وأنماط تفكيرهم. وفي ذات يوم، لمّا عزم على الانطلاق للتّبشير وإعلان رسالة الخلاص الّتي تجسّد من أجلها، وإذ كان في حاجة إلى معاونين، لم ير خيرًا من أولئك الصّيادين ليختار من بينهم معاونيه الأوائل والأساسيّين، الّذين سمّاهم الإنجيل رسلاً وتلاميذ، لأنّه رأى فيهم النّاس المؤهّلين القادرين على اتّباعه وحمل رسالته والشّهادة على إنجيله، بسبب نمط حياتهم الّذي عرفه معرفة قويّة والّذي يشبه إلى حدّ بعيد نمط الحياة الرّسوليّة الّتي كان يفكّر فيها والّتي كان سيدعو إليها من يختارهم من بين أولئك الصّيّادين. لم يختر بالتّالي لا المزارعين ولا الصّناعيّين ولا الحرفيّين ولا التّجّار ولا الموظّفين. اختار صيّادين ليكونوا معاونين له ومن ثم شهودا له: ستكونون لي شهودًا في أورشليم وإلى أقاصي الأرض.
الشّبه الّذي بين حياة الصّيّادين وحياة الرّسل وحياتنا نحن المسيحيّين عمومًا هو ما في هذه الحياة من وساعة، من رحابة. الحياة الرّسوليّة واسعة وسع البحر. ولمّا كان الرّسل معتادين على وساعة البحر كان في إمكانهم أن ينطلقوا إلى الرّسالة المسيحيّة الواسعة. وها هو الرّبّ يسوع يبعثهم فعلاً في الأرض كلّها قائلاً: إذهبوا في الأرض كلّها، وقد كان صاحب المزامير أنبأ بذلك حين قال عنهم: في كلّ الأرض ذاع منطقهم وإلى أقاصي المسكونة كلامهم. ولمّا كان حقل حياة الصّيّادين، أعني لمّا كان البحر واسعًا، ولمّا كان حقل حياة الرّسل وحقل حياتنا نحن أيضًا مع الرّبّ يسوع مثل البحر واسعًا، فإنّنا نتوقّع كلّ شيء. أن تطالعنا أيّام هادئة حلوة وأن تباغتنا أيّام هائجة صاخبة كما هي حال الصّيّادين. ومع ذلك نركب البحر كلّ يوم لأنّنا اخترنا هذا النّمط من الحياة. هذه الحياة المليئة بالمفاجأت لم تكن غائبة عن ذهن الرّسل والتّلاميذ حين أرسلهم يسوع اثنين اثنين على وجههم، أيّ من دون جهة معيّنة محدّدة، ليس معهم لا مزود ولا ثوبان ولا حذاء ولا عصا، كما يقول الإنجيل. هذا يعني أنّ من أراد أن يتبع يسوع وأن يكون له تلميذًا عليه أن يكون جاهزًا للمغامرة وأن يكون شجاعًا وأن يكون مندفعًا نظير الصّيادين لأنّ اتّباع يسوع، لأنّ الحياة معه ركوب بحر ورحلة صيد. حياة فيها أيّام تأتي بثمر وفرح كما حين كان النّاس يقبلون الرّسل، وفيها أيّام لا تأتي بذلك كما حين كان النّاس لا يقبلونهم، كالبحر يأتي يوم نقع فيه على سمك ويعقبه يوم لا نقع فيه على سمك. وقد ألمح القدّيس بولس إلى هذه الحياة الّتي مع يسوع بقوله: تعلّمت أن أكون قنوعًا في كلّ حال، فأعرف أن أعيش في العوز وأعرف أن أعيش في السّعة. لقد روّضت نفسي في جميع الأحوال وفي كلّ منها، على الشّبع وعلى الجوع، على الرّفاهيّة وعلى الفاقة. إنّي أستطيع كلّ شيء في الّذي يقوّيني (في 4: 11-13). لكن حياة الصّيّادين على الرّغم من أنّ فيها مغامرة إلّا أنّ هذه المغامرة مبنيّة على الأمل والثّقة. الصّيّاد يركب البحر كلّ يوم بالرّغم من أنّه يعلم جيّدًا أنّ الخطر يتهدّده أو أنّه قد لا يصيب شيئًا، لكن الأمل عنده كبير فلا يستسلم للخوف ولا يستسلم لليأس والإحباط، بل ينتظر، وقد يطول الانتظار في أحيان كثيرة، ويصبر ويتحيّن الوقت فلا بدّ للجوّ من أن يصحو ولا بدّ للشّبكة من أن تمتلئ. نحن نتعلّم من الصّيّادين الصّبر والمثابرة اليوميّة والرّجاء والثّقة بالله الّذي لا يتركنا بل يملأ شباكنا، كما أنّه لا يترك العصافير ولا زنابق الحقل، يطعم تلك ويلبس هذه. قد يتأخّر لحكمة عنده إنّما يأتي دومًا. هكذا كان الرّسل وخصوصًا بولس لا يحصلون دومًا على نتيجة جيّدة فوريّة لعملهم أو على تعزية مباشرة، وبالرّغم من ذلك ما توقّفوا يومًا عن التّبشير وخدمة الإنجيل. ولنا في الرّسالة إلى الكورنثيّين وصف من أجمل ما كتبه بولس عن هذا الواقع.
أجل، إنّ الرّبّ يسوع لا يتركنا أبدًا، بل يده ممدودة إلينا على الدّوام. نلمس ذلك في ما حصل للرّسل يوم كانوا في البحر وهبّت عليهم ريح كادت أن تغرِق سفينتهم وإذا بيسوع ينقذهم. وذات مرّة قضوا اللّيل كلّه في البحر وتعبوا ولم يحصلوا على شيء وإذا بيسوع يلاقيهم ويأمرهم بأن يلقوا شباكهم من جديد فأصابوا من السّمك كمّيّة كبيرة كادت أن تمزّق تلك الشّباك. هذا النّمط من الحياة الّذي مثاله نمط حياة الصّيّادين والّذي اقتبسه الرّبّ يسوع من حياتهم والّذي طلب من الرّسل أن يعيشوه ويطلب منّا نحن أيضًا أن نعيشه كلّ يوم، نستطيع أن نسمّيه نمط الحياة يومًا بيوم. لا تهتمّوا للغد فالغد له همومه. يكفي كلّ يوم همّه. الحياة يومًا بيوم الّتي لمسها يسوع وعاشها مع الصّيّادين ومع رسله قد تكون هي الّتي جعلته يقول هذا الكلام، وجعلته يقول أيضًا في الصّلاة الرّبّيّة، صلاة الأبانا، الّتي علّمنا إيّاها: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. أجل، أعتقد أنّ الرّبّ يسوع عندما تلفّظ بهذه العبارة كان يفكّر بالصّيّادين أصدقائه الّذين كانوا يعيشون يومهم بيومهم. وقد أدرك ذلك الرّسول بولس الّذي قال لتلميذه تيموثاوس: أوص أغنياء هذا الدّهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يتوكّلوا على أموال لا ثبات لها، بل على الله الّذي يؤتينا كلّ شيء بوفرة لنتمتّع به. ورأى أنّه شرف كبير لكلّ صيّاد أن يكون الرّبّ يسوع اختار صيّادين ليكونوا تلاميذ له وأن يكون جعل منهم صيّادين للنّاس. شرف كبير لكلّ صيّاد أن يكون يسوع عاش أجواء حياتهم واختبرها وتأثّر بها قبل أن ينطلق للبشارة بحيث أنّ الحياة الرّسوليّة والمسيحيّة الّتي دعا إليها فيها شبه من حياتهم. الصّيّادون هم الأقرب إلى يسوع لأنّهم أكثر من يستطيع أن يفهمه ويستجيب لندائه ويلبّي دعوته. وعندهم الكثير نتعلّمه منهم لحياتنا المسيحيّة. الصّيّادون ثروة وطنيّة كبيرة تستوجب العناية بهم وتشجيعهم وإنعاش مهنتهم وتوفير وسائل العيش الكريم لهم. لبنان طوله كلّه بحر. ومن قديم الزّمان بحر لبنان طريقه إلى الثّروة ذهابًا وإيابًا. وللصّيّادين والبحّارة في هذا باع طويلة وفضل كبير. إنّهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بتاريخ لبنان وحضارته وبتجارته وصناعته وزراعته.
ولا بدّ في هذا المقام من التّنويه بالشّكر لما تقوم به أو تسعى إليه الحكومة والوزارات المعنيّة من خطوات لتحسين أحوال الصّيّادين وظروف الصّيد، من مثل قوارب مراقبة الصّيد وحماية الثّروة السّمكيّة وخطّة تطوير الصّيد وضمان الصّيّادين وتعزيز الأصغر منهم. لا بدّ كذلك من تهنئة وشكر التّعاونيّة الجديدة على التّوافق الّذي حصل والّذي يؤدّي حتمًا إلى خير الصّيّادين وحماية وتنمية عملهم.
بإسم الجميع، أشكر كاهن الرّعيّة وجميع معاونيه والّذين حضروا هذا الاحتفال والجوقة وتيلي لوميار، وأحيّي كلّ واحد منكم وأشكركم على حضوركم وعلى مشاركتكم، وأهنّئكم بهذا الاحتفال المقدّس الّذي فيه نعبّر كلّنا عن تقديرنا وتضامننا مع الإخوة الصّيّادين. ومعكم جميعًا نهتف قائلين: مبارك أنت أيها المسيح إلهنا الذي أظهر الصّيّادين جزيلي الحكمة وأنزل عليهم الرّوح القدس وبهم اصطاد المسكونة. يا محبّ البشر، المجد لك".

بعد القدّاس، أبحر المركب في عرض البحر، وأُلقي إكليل من الزّهر في قعر المياه على نيّة شهداء المدينة الّذين قضوا بالبحر.

في الختام، سلّم رئيس بلدية البترون مارسيلينو الحرك البطريرك العبسيّ مجسّم مار إسطفان، وقدّمت له تعاونيّة صيّادي الأسماك والسّياحة والتّراث إسفنجة من بحر البترون.