المتروبوليت إسكندر من يارون: إن تهدّم الحجر فالإيمان لم ينهدم، وإن سقط السّقف فالله لم يغادر
وإحتفل اسكندر بالذّبيحة الإلهيّة في قاعة الرّعيّة، وعاونه الأب شارل ندّاف. وبعد الإنجيل ألقى عظة جاء فيها:
"صباح الخير أيّها الأحبّة،
صباح الخير لكم يا أبنائي في يارون، يا من بقيتم واقفين حين تعب الحجر، ويا من لم تتركوا الإيمان يهاجر، ولو تهدّمت البيوت.
هذا الأحد الّذي يسبق الميلاد بعشرة أيّام، لا ليأخذنا إلى أجواء الاحتفال فقط، بل ليعيدنا إلى واقعنا الحقيقيّ حيث يريد الرّبّ أن يولد.
الإنجيل الّذي سمعناه اليوم ليس إنجيلًا سهلًا، بل مثلٌ يهزّ الضّمير.
إنسانٌ صنع عشاءً عظيمًا، دعا كثيرين، وكان كلّ شيءٍ جاهزًا...
لكنّ المدعوّين اعتذروا. واحدٌ انشغل بحقلِه، وآخر ببقرِه، وثالث بزواجِه.
أعذارٌ تبدو "منطقيّة" للوهلة الأولى، لكنّها في عمقها رفضٌ للحضور، رفضٌ للشّركة، ورفضٌ للدّعوة.
هذا الأحد يُدعى أحد الأجداد القدّيسين، لا لأنّهم عاشوا حياةً مثاليّة بلا صعوبات، بل لأنّهم، وسط ظروفٍ قاسية، لم يعتذروا عن تلبية دعوة الله لهم.
لم يقولوا له: "ليس الآن". لم يؤجّلوا اللّقاء. لم يضعوا أملاكهم، ولا مخاوفهم، ولا حساباتهم، قبل الدّعوة.
أجدادنا في الإيمان اختاروا أن يلبّوا. اختاروا أن يدخلوا العرس، ولو بقلوبٍ مرتجفة. إختاروا أن يقولوا "نعم"، ولو لم تكن الطّريق واضحة.
واليوم، وأنا أقف بينكم هنا في يارون، أشعر أنّ هذا الإنجيل كُتب لهذا المكان، لا للماضي فقط، بل للحاضر.
يارون اليوم ليست بلدةً كاملة. إنّها بلدةٌ جريحة. سبع عشرة عائلة فقط عادت، من أصل سبعٍ وخمسين. بيوتٌ مهدّمة. كنيسةٌ قُصفت. وشوارع تحمل آثار الغياب أكثر ممّا تحمل آثار الحياة.
ومع ذلك... أنتم هنا.
في القدّاس. في الذّبيحة الإلهيّة. لم تعتذروا. كان يمكن لكلّ واحدٍ منكم أن يقول: "الوقت ليس مناسبًا للصّلاة". "الوجع أكبر من التّرنيم". "البيت أهمّ من الكنيسة". لكنّكم لم تفعلوا.
أنتم اليوم تشبهون أولئك الّذين دعاهم السّيّد من الشّوارع والأزقّة، من الطّرق والأسيجة، وقال لهم: "تعالوا... بيتي يجب أن يمتلئ".
الله، يا أحبّتي، لا يبحث عن المبرّرات. إنّه يبحث عن القلوب الحاضرة. لا يسأل: هل بيوتكم سليمة؟ بل: هل قلوبكم مفتوحة؟
في هذا الإنجيل، الّذين رُفضوا لم يكونوا خطأة بالمعنى الأخلاقيّ. كانوا منشغلين.
وهنا تكمن الخطورة: أن ننشغل إلى درجة ننسى الدّعوة، أن نغرق في ما نملك فنفقد ما يخلّصنا.
أنتم، رغم الخسارة، لم تنشغلوا عن الله، وهذا بحدّ ذاته شهادة.
أحد الأجداد القدّيسين يذكّرنا بأنّ الله يعمل في التّاريخ من خلال أناسٍ لم يعتذروا عن الرّجاء، من خلال نساءٍ ورجالٍ قالوا: "سنكمل المسيرة، ولو ببطء"، "سنحفظ العهد، ولو بدمعة".
وقبل الميلاد بعشرة أيّام، يأتي هذا الأحد ليقول لنا: الميلاد ليس زينةً تُعلَّق، بل بيتٌ يُفتح.
ليس مغارةً من حجارة، بل قلبًا يقول: "تفضّل، ادخل".
في يارون، الكنيسة ليست جدرانًا فقط. الكنيسة هي أنتم.
وإن تهدّم الحجر، فالإيمان لم ينهدم. وإن سقط السّقف، فالله لم يغادر.
أنا اليوم لا آتي فقط لأتفقّد حجارةً مكسورة، بل لأرى إيمانًا لم يُقصف، وأصافح رجاءً لم يُهزم، وأقول لكم بوضوح: أنتم لستم منسيّين.
الإنجيل يقول: "كثيرون مدعوّون، وقليلون مختارون".
ليس لأنّ الله يميّز بين النّاس، بل لأنّ القليلين هم الّذين يلبّون.
وأنتم، في هذه البلدة الحدوديّة، اليوم، من الّذين لبّوا. لبّيتم رغم الخوف.
لبّيتم رغم الدّمار. لبّيتم لأنّكم تعرفون أنّ الله لا يولد في القصور، بل في الأماكن المتواضعة،
في المغارات المتشقّقة، في القرى الجريحة، وفي القلوب الّتي لم تفقد الإيمان.
قبل الميلاد بعشرة أيّام، يسألنا الرّب: هل نريد أن نكون من المعتذرين؟ أم من الحاضرين؟
أنتم اخترتم الحضور. اخترتم أن تقولوا: "نحن هنا، يا ربّ". وهذا هو معنى أحد الأجداد القدّيسين: أن نكون حلقةً حيّة في سلسلة الرّجاء، وأن نسلّم الإيمان، لا كفكرة، بل كحياة.
نعم، نحن اليوم نوزّع مساعدات، لكن الأهمّ أنّكم أنتم تعطون الكنيسة شهادة. تعلّموننا أنّ البقاء ليس عنادًا، بل أمانة، وأنّ العودة ليست تهوّرًا، بل إيمانًا.
يا أهل يارون، ميلاد المسيح قريب. وسيولد، كما وُلد أوّل مرّة، في مكانٍ بسيط، وفي واقعٍ صعب، لكن في قلبٍ يقول: "تفضّل".
لا تعتذروا من الله. لا تؤجّلوا الرّجاء. لا تتركوا الوجع يسرق منكم الدّعوة.
كونوا، كما أنتم اليوم، من المدعوّين الّذين دخلوا، ومن المختارين... لأنّهم أحبّوا.
آمين."
وبعد القدّاس، جرى توزيع أناجيل على المشاركين في الذّبيحة الإلهيّة "بركة من زيارة قداسة البابا لاون الرّابع عشر إلى لبنان"، في لفتة روحيّة حملت معنى التّثبيت والتّشجيع لأبناء البلدة.
ثمّ انتقل الجميع إلى دار المطرانيّة في البلدة، حيث اطّلع المطران إسكندر على احتياجات أبناء القرية، ووزّع مساعدات مالية وبونات مازوت للتّدفئة على المقيمين. واختُتمت الزّيارة بلقمة محبّة مع الشّبيبة في دار المطرانيّة، في مشهدٍ يعكس أهمّيّة الزّيارات الرّعويّة الّتي تُقوّي التّضامن، وتُبقي الرّجاء حاضرًا، وتُرسّخ ثقافة المحبّة والتّعاضد.
