لبنان
27 كانون الأول 2023, 12:15

المطران ابراهيم في الميلاد: لنرفع الصّلاة من أجل السّلام في جنوب لبنان وغزّة ومن أجل وقف حمّام الدّمّ في المنطقة

تيلي لوميار/ نورسات
"لَكنَّهُ أَخْلى ذَاتَهُ، آخذًا صورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ." (فيليبي 2/7)، من هذه الآية انطلق رئيس أساقفة أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم في عظة قدّاس الميلاد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- زحلة، ليكشف عن معاني سرّ التّجسّد الإلهيّ.

وحول هذا الموضوع قال ابراهيم: "إنَّ التّأمُّل بهذه الآية من رسالة القدِّيس بولس إلى أهل فيليبي يوصلنا إلى إدراك بعض معاني سرِّ التّجسُّد الإلهيّ الّذي فيه تطوَّع ابن الله الأزليّ، الأقنوم الثّاني في الثّالوث المقدَّس، وهو "الكلمة" الّذي على حدِّ تعبير القدِّيس يوحنَّا الإنجيليّ: "كان في البدء عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كلُّ شيء به كان، وبغيّره لم يكن شيءٌ ممَّا كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور النّاس، والنّور يضيء في الظّلمة، والظّلمة لم تدركه." (يوحنّا 1/1-5) هذا "الكلمة" هو يسوع المسيح عينه الّذي يقول عنه القدِّيس بولس إنّه أخلى ذاته وتجسَّد متنازلاً من علياء سمائه ليولد طفلاً في مغارة فقيرة. هذا الإخلاء يعني أنَّ الذّات الإلهيَّة في كلِّ لا محدوديَّتها، وهذا الشّخص الإلهيّ في كلِّ أزليَّته ومجده اللّامتناهي، قَبِلَ أن يصير طفلاً وأن يولد من امرأة بحسب نواميس الطّبيعة البشريَّة المحدودة، دون أن يشوب ألوهيَّته أيُّ نقص؛ والغير المحدود في زمن وُلد في زمن، والكائن صار لأجلنا ما لم يكن.  

إخلاء الذّات الإلهيَّة هذا، يعني أيضًا أنَّه استبدل السّماء بكلِّ بهائها واتِّساعها المطلق بمغارة لا بهاء فيها ولا ضياء. أخلى ذاته لمَّا تغذَّى من الثّديين لبنًا وهو الّذي في القديم، أمطر على شعبه في القفر منًّا. أخلى ذاته لمَّا تقبَّل من المجوس الذين انقادوا إليه باكورةً للأمم هدايا، وهو الّذي أسَّس الأرض على قاعدتها وفجَّر العيون في الشّعاب، وأشبعنا من صنائعه، وبسط يديه فامتلأنا كلَّنا خيرًا. (راجع مزمور 103). أخلى ذاته لمَّا ارتضى أن يصير آدم الجديد، ليعيد لآدم المتهوِّر بسبب المعصية صورة الله ومثاله، فتبطل الضّلالة الصّنميَّة كلُّها. أخلى ذاته لمَّا سمح بتجسُّده أن تظهر أمُّ عذراء أرحب من السّماوات لأنَّ منها أشرق نور للّذين في الظّلام، فعيَّد البشر والملائكة تعييدًا روحيًّا، واتَّحدت السّماء والأرض. أخلى ذاته عندما ظهر على الأرض وهو الإله، ليصعد الإنسان إلى السّماوات. أخلى ذاته وهو "ضياء مجد الله وصورة جوهره" (عبرانيّين 1/3) لمَّا ارتضى، وهو المنزَّه عن الخطيئة، أن يحمل خطايا العالم واضعًا نفسه طائعًا حتَّى الموت، موت الصليب. (فيليبي 2/8)

هذا "الكلمة" صار جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا". (يوحنّا/1-14) "والكلمة المنزَّه منذ الأزل عن المادَّة، قد اتَّخذ كثافة الجسد ليجذب إليه الجبلة السّاقطة." التّسبحة 3 من سحر الميلاد).

في كلِّ ما سبق، كان المسيح "متطوِّعًا" بملء إرادته وكامل حرِّيَّته يختار- ومن الآب لم ينفصل- أن يصير إنسانًا مثلنا بغنى حكمة الله ومعرفته. "تطوَّعَ"، يعني أنَّه تجسَّد ووُلِدَ طفلاً فختم بميلاده البتوليَّة، وحلَّ بأقمطته قيود خطايانا، وشفى بطفولته أوجاع آدم وحوَّاء، والحيَّة أُبيدت. "تطوَّعَ" تطوُّعًا إلهيًّا لا شروط فيه ولا قيود، ليكون لنا مثالاً في التّطوًّع وبذل الذّات من أجل الآخرين. "تطوَّعَ" ليس عن حاجة أنانيَّة أو لتحقيق مصلحة آنيَّة أو جنيٍّ لسلطة أو شهرة أو غنًى، بل تمسكن متَّخذًا ما لنا لكيما باتِّحاده واشتراكه في طبيعتنا التّرابيَّة يصيِّرها متألِّهة. إنَّه "المتطوِّع" بامتياز! وهو يدعونا إلى الاقتداء به لكي نحمل بالتّطوُّع خير الآخرين وخلاصهم، ونعمل على تحقيق ما هو مناسب لكرامتهم ومصالحتهم مع الله. نتطوَّع لا لكثرة الوقت الفائض عندنا، بل لفيض الحبِّ الّذي فينا. فعلى مثال يسوع، علينا أن نرفع عنَّا الأنانيَّة والكسل واللّامبالاة، فنتطوَّع لخدمة عالمٍ لسعته الخطيئة فصار كالنّشوان، لنأخذ بيده من جديد بإرشاد الكوكب نحو شمس العدل الشارق من البتول. هنا أشكر المتطوّعين في خدمة أبرشيَّتنا وكنائسنا، وأقف وقفة إكبار وتقدير واحترام لكلّ واحد منهم.

أيّها الأحبّاء، أتمنَّى أن يشملكم فرح ميلاد المسيح ويلفَّ حياتكم بالنّجاح والعطاء والإيمان والصّحِّة والطّهارة، وأن تكون السنة الجديدة 2024 سنة مباركة للعالم، وزمن أمان لقلوبكم وأفكاركم. فلنرفع الصّلاة من أجل السّلام في جنوب لبنان وغزّة ومن أجل وقف حمّام الدّمّ في المنطقة. رجاؤنا أن يستقرَّ بلدنا لبنان وأن ينهض من أزماته الاقتصادية والسّياسيّة والاجتماعيّة والمعيشيّة والدّيموغرافيّة الّتي تهدّد كيانه ومستقبله، وأن يُزهر فيه السّلام والوئام والإخاء والمحبَّة، وأن يبقى وطنًا لكلّ أبنائه ينعمون فيه بالأمان والازدهار، وفوق كلِّ شيء أن نعود لله إذا ما تُهنا، وأن تخمُدَ إلى الأبد، بشفاعة مريم والدة الإله، سيّدة النّجاة، كلّ قوّة قد تفصلنا عن محبّة المسيح.

ألمسيح وُلد! فمجّدوه!".