المطران ابراهيم: في الميلاد نحتفل بولادة النّور الأزليّ في قلب التّاريخ
بعد الإنجيل المقدّس، كانت للمطران ابراهيم عظة قال فيها بحسب إعلام الأبرشيّة: "نحن نقترب من عيد الميلاد، والعالم يلمع بالأضواء والنّجوم الّتي تزيّن الشّوارع والبيوت، ولكن هذه الزّينة الظّاهرة ليست إلّا رمزًا لسرٍّ أعمق، سرّ النّور الّذي أشرق في الظّلمة فبدّدها.
في الميلاد لا نحتفل بمجرّد ولادة طفل في بيت لحم، بل بولادة النّور الأزليّ في قلب التّاريخ، النّور الّذي لا يطفأ، نور الله المتجسّد في يسوع المسيح.
تعرفون أنّه في سفر التّكوين، عندما خلق الله كلّ الأشياء والخلائق، كان يقول بعد كلّ خلق "ورأى الله ذلك أنّه حسن" ولمّا خلق النّور قال الله "ليكن نور" فكان نور. كلمة الله خلقت النّور، وكلمة الله ليست بعيدة عنّا، هي بيننا، هي يسوع المسيح، الكلمة الّتي بها خلق كلّ شيء وكان كلّ شيء. نحن نؤمن بأنّ الله نور من نور، قبل ظهور النّور كان هناك نور.
حين نرفع أنظارنا إلى النّجم الّذي قاد المجوس، ندرك أنّ هذا النّور ليس من هذا العالم، فالنّجم لم يضء السّماء فقط بل أضاء العقول وأضاء القلوب، لقد كشف للإنسان وجه الله الّذي لم يعد بعيدًا بل صار قريبًا، طفلًا يحمل بين ذراعي أمّه، النّجم لم يكن مجرّد ظاهرة فلكيّة بل علامة روحيّة، دعوة إلى أن نسير نحن أيضًا نحو الحقيقة، نحو ذاك الّذي قال عن نفسه " أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة".
قبل قانون الإيمان، وقبل أن يقول الآباء عن الله إنّه نور من نور، قال يسوع عن نفسه "أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة"، لماذا أتحدّث عن هذا الموضوع؟ الكثيرون ينتقدوننا ويقولون بأنّنا اختصرنا عيد الميلاد بزينة وشجرة وأضواء، وهذا أمر غير مطابق للواقع، لأنّه في الحقيقة الرّموز لها قوّة، والسّرّ له قوّة، لذلك نحن نؤمن بأننا عندما نزرع الأضواء والأنوار في عيد الميلاد، نشير إلى الله بأنّه نور من نور وبأنّ المولود هو نور العالم، من يتبعه لا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة.
الفلسفة القديمة بحثت عن النّور بوصفه رمز الحقيقة والوجود، فالنّور هو ما يظهر الأشياء على حقيقتها، وبدون النّور نبقى في الظّلال لا نرى سوى أشباح المعاني، ولكن في الميلاد يتحوّل هذا المعنى الفلسفيّ إلى واقع إلهيّ ملموس، النّور الّذي كان فكرة أصبح جسدًا، والحقّ الّذي كان بعيدًا صار إنسانًا. ما كان الفلاسفة يبحثون عنه في المجرّد أعطاه الله لنا في شخص يسوع الّذي أتى ليبّدد ظلمة الجهل والخطيئة.
والنّور في الكتاب المقدّس هو حضور الله. منذ البداية قال الرّبّ " ليكن نور" فكان النّور، ومنذ ذلك الحين لم يتوقّف الله عن إشراق نوره في الكون وفي القلوب، لكن الإنسان بخطيئته فضّل الظّلمة على النّور كما يقول الإنجيل الّذي يقول "النّور جاء إلى العالم وأحبّ النّاس الظّلمة أكثر من النّور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة" الظّلمة ليست قوّة توازي النّور بل هي غيابه، كما أنّ البرودة ليست شيئًا قائمًا بحدّ ذاته بل هي غياب للحرارة، كذلك الظّلمة هي غياب للحضور الإلهيّ، غياب للحبّ وللحقيقة وليست أيّ غياب آخر. الإنسان الّذي يبتعد عن الله يدخل في ظلمة قلبه، في قلقه، في مرضه، في وحدته، لكن الله لا يتركه هناك في الميلاد، الله يدخل ظلماتنا لينيرها من الدّاخل لا من بعيد بل من وسطها، في المغارة حيث الفقر والبرد واللّيل والعذاب والأمّ الصّامت، هناك يشعّ النّور الحقيقيّ.
إنّ أضواء الميلاد الّتي تملأ المدن ليست إلّا صدى لذلك النّور الّذي غيّر وجه الأرض، ليست زينة عابرة بل علامة لسرٍّ أبديّ أنّ الله ما زال يريد أن يضيء عالمنا المتعب، وإنّ كلّ شعلة صغيرة تذكّرنا بأنّنا نحن أيضًا مدعوّون أن نكون أنوارًا.
قال المسيح لتلاميذه "أنتم نور العالم" ليست هذه مجرّد دعوة أخلاقيّة بل مشاركة في كيانه هو، فكما يستمدّ القمر نوره من الشّمس، كذلك نحن نستمدّ نورنا من المسيح، هو النّور ونحن انعكاسه. كلّ مرّة نحبّ، نغفر، نزرع سلامًا، نحن نشعل نجمة في ليل هذا العالم.
هل ياترى نتستطيع أن نقف للحظة ونسأل أنفسنا: هل نحن في زمن النّور أم في زمن الظّلمة؟ يبدو أنّ بلادنا في زمن ظلمة بالرّغم من كلّ الخير الموجود، وبالرّغم من كلّ الإشارات الإيجابيّة، يبدو أنّنا ما زلنا في زمن ظلمة وأنّ قلب وطننا لبنان، بالرّغم من انفتاحه على إشراقات النّور، ما زال مغلقًا في أنانيّة وفتور.
النّور لا يفرض نفسه بالعنف بل يستطع بالوداعة، كلّ الحلول العنيفة الّتي تطرح هي ضدّ السّلام وضدّ الاستقرار، ضدّ الإنسان، لا يوجد حلول بالعنف. النّجم الّذي قاد المجوس لم يرغمهم على المسير، بل دعاهم وجعلهم يتركون أوطانهم ليجدوا الحقيقة، وهكذا نحن أيضًا لا نبلغ نور الميلاد إن بقينا في راحة الظّلمة، بل حين نجرؤ ان نسير خلف النّجم أيّ خلف الإيمان.
وفي نهاية المطاف النّور هو وجه الله الّذي يشرق في قلب الإنسان، النّور الّذي يجعلنا نرى الآخرين لا كخصوم بل كإخوة، يجعلنا نرى الألم لا كعقوبة بل كطريق خلاص، يجعلنا نرى الموت لا كظلمة نهائيّة بل كفجر حياة جديدة.
فلنطلب في هذا العيد أن يضيء الرّبّ عقولنا فنفهم، وقلوبنا فنحبّ، وأعمالنا فنشهد، ولتكن نجمة الميلاد والّذين ساهموا في إضاءتها في هذه المدينة، حتّى أصبحت زحلة أجمل من أيّ مدينة أخرى في لبنان، وهي تضاهي المدن العالميّة في زينتها، وهذا أمر يجعلنا نشعر بأنّ العيد هو بين أيدينا، هو في قلوبنا وفي عيوننا. عندما نرى كلّ هذا الجمال الّذي خلقناه بأيدينا والّذي صنعناه من أجل أن نعيّد هذا العيد، يصبح هذا العيد واقعًا ويصيح العيد جزءًا منّا.
الظّلمة مهما كانت كثيفة لا تستطيع أن تغلب النّور لأنّ النّور الحقيقيّ أشرق والعالم لم يعد كما كان.
نحن في هذه المطرانيّة بإمكانيّاتنا الضّعيفة وجدنا إنسانًا يقف إلى جانبنا ويضيئها في العيد، هو المهندس أسعد نكد. إختار سيّدة النّجاة، وسيّدة النّجاة اختارته ليكون مضيئًا لهذا الصّرح في هذا العيد، كما أنّه في كلّ سنة على عادته يضيئ بأضواء مميّزة جدًّا مقام سيّدة زحلة والبقاع. وأستغل المناسبة لأشكره على وقوفه إلى جانب كنائسنا وإلى جانبنا جميعًا في كلّ نشاطاتنا وفي كلّ خطواتنا. وأتوجّه لأشكر أيضًا إلى مؤسّسة جوزف طعمة سكاف بشخص رئيستها السّيّدة ميريام سكاف على إضاءة نجمة زحلة، مستشفى تلّ شيحا، الّتي هي قلعة من قلاع هذه المدينة مضاءة بأضواء رائعة جدًّا. وهنا آخذ المبادرة لأشكر كلّ من أطلق مبادرات لإضاءة مدينة زحلة في كلّ شوارعها، لكي تكون مدينة النّور ومدينة الضّوء.
أشكركم على حضوركم اليوم، كما أشكر قدس النّائب العامّ الأرشمندريت إيلي معلوف على تنظيم هذه المناسبة والقدّاس، النّائب العامّ غالي جدًّا علينا ونشيط جدًّا، نشكر الله عليه وعلى الآباء الّذين يشاركونني في هذا القدّاس الإلهيّ، أشكر حضوركم وإن شاء الله بعد القدّاس نطلق سويًّا الزّينة الميلاديّة في سيّدة النّجاة."
وبعد ختام القدّاس، انتقل الحضور إلى باحة المطرانيّة على أنغام موسيقى مفوّضيّة البقاع في جمعيّة الكشّاف اللّبنانيّ، وبحضور قادة وأفراد فوج زحلة الرّابع الّذين صمّموا المغارة الميلاديّة، وعلى أنغام النّشيد الوطنيّ اللّبنانيّ أُضيئت الزّينة الميلاديّة. بعدها تبادل الجميع التّهاني بالعيد في قاعة المطران أندره حدّاد.
