دينيّة
07 شباط 2017, 13:55

خاصّ- أبونا داود كوكباني.. كاهن إلى الأبد!

ريتا كرم
"أبونا داود قدّيس" كلمات أطلقتها الجموع الغفيرة، داخل كاتدرائيّة مار جرجس- بيروت وخارجها، بيوم وداع من أسلم الرّوح في 5 ت1/ أكتوبر 2012. كلمات اختصرت مسيرة كاهن كان لكلّ عارفيه الأب، والأخ، والمرشد، والصّديق، والرّفيق.. كاهن اختاره الرّبّ ليحمل سرّ الكهنوت في 11 نيسان/ إبريل 1970 فيشهد به لقيامته.

 

ليس صدفة أن تكون آخر كتاباته في أحد الكهنة المنتقلين، فهو دوّن يومها متسائلاً: "إخترتني! لماذا؟ أنتَ تعرفني وتعرف ضعفي، تعرف عجزي أمام مشروع حبّك الكبير... إخترتني ودرّبتني كنيستك على عيش الإيمان وممارسة الصّلاة ومنحتني سرًّا أشهد به لقيامتك... عظيمة هذه العطيّة ولكنّي.. رجل خاطئ.. وأنا يا ربّ "أحبّك".. رغم كلّ ضعفي، أحبّك. ها أنا أصرخ إليك: "إرحمني اللّهم، أنا الخاطئ". وأقول مع القدّيس أوغسطينوس، كلّ الّذين خدمتهم: "أنا مسيحيّ معكم، وكاهن من أجلكم.""

اليوم، وفي هذا الأسبوع المبارك، اختار موقع "نورنيوز" الإخباريّ أن يتذكّر الأب داود كوكباني، مع عائلتيه البيولوجيّة والرّوحيّة.

فرولان الشّقيق الأصغر للأب داود يتذكّر ويقول: "هو يمثّل القدوة والحكمة. هو الأخ "الكبير" بكلّ ما للكلمة من معاني. لقاءاتي معه كانت دائمًا تحمل نوعًا من الفرح، فرح اللّقاء بعد الشّوق، لأنّني وكلّ أفراد العائلة، كنّا ننتظر عودته من الإكليريكيّة ومن المدرسة في آخر الأسبوع. لم نعد نلتقيه بعدها إلّا أيّام الآحاد والأعياد خلال القدّاس أو بعده لتناول الغداء... كانت جلساتنا تتناول المواضيع الرّوحيّة والزّمنيّة والتّكنولوجيّة وحتّى الفكاهيّة؛ كان حضوره دافئًا! أتذكّره دائمًا في طور التّحضير لشيءٍ ما: محاضرة، عظة، مقالة..." ولكن في كلّ ذلك كان رولان، كما العائلة وكلّ من عرفه، يجد في الأب داود وعظاته وتعاليمه وكتاباته، مكسبًا فكريًّا وخزّانًا روحيًّا يضخّ في القلب تعاليم اقترنت بأفعال خدمة ومحبّة.

فأحد أبرز الأمثولات الّتي تعلّمها منه كانت تتجلّى في تصرّفاته ككاهن رعيّة مع الفقراء والأقلّ حظًّا، تلك كانت "واحدة من الدّروس الّتي تلقّنتها في معاملة الآخر: أن أعمل من دون أن أنتظر مقابلًا! أن أحِبّ من دون أن أنتظر أن أحَبّ!" يتابع رولان.

لعلّ أبناء رعيّته والحركات الرّسوليّة والعمل الرّعويّ الجامعيّ والمدرسة الإكليريكيّة فقدوه يوم غاب عنهم بالجسد، لكنّ أسرته "فقدته مرّتين"، يخبر رولان، "يوم سيم كاهنًا، ويوم دخل ملكوت يسوع الّذي أحبّ. وفي المرّتين كان في الأمر دمعة فراق ودمعة رجاء." لكنّ إيمانهم برسالته المقدّسة حرّرتهم من كلّ القيود، فهم بدورهم يتابعون مسيرته وينشرون صدى صوته بين محبّيه في لبنان والعالم. إذ انطلاقًا من مقولته الشّهيرة: "ما فيك تخلّي النّور إلك"، ها إنّ عائلته الصّغيرة تكمل المهمّة من خلال نشر أوّل صفحة على الإنترنت تحتوي على كلّ كلماته صوتًا، ثمّ مشاركتها مع "جمعيّة أبونا داود" الّتي تضمّ معظم الحركات الرّسوليّة الّتي كان ناشطاً فيها أو مؤسّسًا لها: الحركة الرّسوليّة المريميّة، إيمان ونور، إخوة وأخوات يسوع، عيلة مار شربل، رعيّة مارت تقلا، رسالة حياة... وهم يتابعون النّشاط عبر الإنترنت وعبر إصدارات كتابيّة تحوي عدّة مواضيع روحيّة، بعضها يختصر سيرة حياته حسبما أخبرها هو بذاته. أمّا الهدف منها فيوضح رولان أنّ "كلّ هذه الأعمال هي للمحافظة على التّواصل الّذي أرساه أبونا بين محبّيه. ومنهم من لا يزال كلامه يلهمه حتّى اليوم."

من بين هؤلاء غلوريا بو خليل الّتي اتّخذت من الأب داود كوكباني أبًا روحيًّا رأت فيه "المرشد والمرجع والسّند والمثال الأعلى" منذ أن التقته للمرّة الأولى في جبيل، في لقاء عام للحركة المريميّة الرّسوليّة الّتي أسّسها وبات مرشدها العامّ. يومها كانت في السّادسة عشرة من عمرها، وأثناء القدّاس الإلهيّ الّذي خدمه الأب داود، وعند رفعة كأس القربان، انهمرت دموع تلك الفتاة "المشاغبة" وتمّ "ليس فقط اللّقاء الأوّل بهذا الكاهن وإنّما بيسوع المسيح أيضًا"، لقاء لا تزال إلى اليوم تعجز عن وصفه.

واقعيّ، متواضع وذكيّ صفات لا بدّ أن تكتشفها في كاهننا عند سماع شهادة غلوريا عنه، فعيناها وحدهما تفضحان صدق تأثّرها بهذا الكاهن الأمين الّذي من خلاله تعرّفت إلى يسوع "بعمق وببساطة"، فتقول: "ساعدني أن أرسم طريقي في الحياة مع يسوع، ساعدني في تكوين شخصيّتي والغوص في العمق وليس في القشور.. ساعدني كي أتصالح مع نفسي."

تتذكّر غلوريا الأب داود الكاهن الّذي يعرف كيف يكرّس وقته لأبنائه الرّوحيّين، فيصغي إليهم بكلّ كيانه وحواسه ولا يختتم جلساته معهم إلّا مطمئنًّا عن علاقتهم الشّخصيّة بيسوع.

لعب الكاهن المرشد دورًا أساسيًّا في حياة غلوريا الرّوحيّة، فهي الّتي ما كانت تأخذ أمور الحركة على محمل الجدّ باتت من بين المسؤولين فيها بعد أن أحبّت عمل الرّسالة وعشقتها بفضله.

"لم تكن الأمور تقليديّة مع "أبونا" داود" تؤكّد غلوريا، فحتّى سرّ الاعتراف ما كان تقليديًّا. كان حوارًا خاليًا من التّعقيد، أو نزهة في ربوع الطّبيعة.. ولكن كلّها تصبّ عند يسوع.

تكشف غلوريا أيضًا عن حبّ الأب كوكباني لوطنه لبنان، فهو الّذي وضع في شبابه نفحة وطنيّة يلفّها الرّجاء والإيمان بمستقبل لا بدّ من بنائه بسواعد أبنائه.. باختصار هو، بالنّسبة لها، "كاهن "ما في متلو"، كاهن يُحتذى به، هو كاهن المسيح."

اليوم، في أسبوع الكهنة المنتقلين، نتذكّرك يا أبانا داود وفي القلب شوق كبير للّقاء، ونقول مع أخيك رولان:  "أنت كاهنٌ إلى الأبد فعلاً. فكلمة الرّبّ أزليّة وأنت نطقت بها وحرف من كلامه لن يزول، وأنت كلمة منه، هو نطق بها. فهنيئًا لك لأنّك بجوار من أحببتَ، ومعه بجوار كلّ من أحبّك."