ثقافة ومجتمع
20 تشرين الثاني 2016, 15:00

خاصّ- في يومهم العالميّ.. حكاية أطفال أبطال

ريتا كرم
"من ثمارهم تعرفونهم، أخذتم مجّانًا مجّانًا أعطوا، طوبى لفقراء النّفوس، طوبى للمضطهدين من أجل البرّ، إنّ أجركم في السّماوات عظيم. من أراد أن يكون كبيرًا "فليكن لكم خادمًا"." بهذه العبارة تستقبلك راهبات العائلة المقدّسة في مؤسّسة مار أنطونيوس البدوانيّ الاجتماعيّة في بلدة كفرفو الشّماليّة بقضاء زغرتا، المنبثقة من دير مار يعقوب كرم سدّة، كرسيّ مطرانيّة طرابلس المارونيّة الأوّل. عبارة تعلو باب المدخل الأساسيّ، خُطّت على لوحة رخاميّة تخليدًا لتاريخ تشييد هذا البناء بمبادرة من الأب نعمة الله بدوي صليبا، قبل ستّين عامًا، وبدعم من المحسنين المقيمين والمغتربين، في عهد راعي أبرشيّة طرابس المارونيّة آنذاك المطران أنطوان عبد.

 

داخل جدران هذه المؤسّسة، دفء تضيفه الرّاهبات الثّلاث المقيمات والّذي لا بدّ أن يحضنك فور عبورك العتبة ومقابلة رئيسة المؤسّسة الأخت ماتيلد ساسين الّتي ينبض في داخلها قلب أمّ عطوف وحنون تخاف على أولادها الـ120، وعلى وجهها ابتسامة دائمة تعكس محبّة كبيرة تفرغها في خدمة قاطني البيت؛ إبتسامة لم تخفها عن فريق عمل "نورنيوز" الّذي جال، برفقة الأخت ماتيلد، في أروقة الدّار مستطلعًا تاريخه ودوره.

الرّاهبات الثّلاث جُنّدن للخدمة بإيعاز من المسؤول الأوّل مطران أبرشيّة طرابلس المارونيّة جورج بو جودة، وبالتّعاون مع وزارة الشّؤون الاجتماعيّة وفق عقد يُجدّد سنويًّا، وتساعدهنّ 7 موظّفات ينضحنَ عطاء يُشهد له.

المؤسّسة الّتي عُرفت في عهد المطران عبد بـ"الميتم المارونيّ" كانت للبنات فقط، في حين كان دير مار يعقوب في كرم سدّة يأوي الفتيان، تحوّلت إلى مؤسسّة مختلطة تستقبل 120 طفلاً: 62 فتاة و58 صبيّاً، تتراوح أعمارهم بين 4 و16 سنة، من دون التّفرقة بين مسلم ومسيحيّ، إذ يعيش تحت سقفها 15 مسلمًا تربطهم بباقي الأطفال علاقة متينة تأسّست على مبدأي الأخوّة والتّعايش، وتجمعهم ظروف صعبة قادت خطاهم إلى هذا المكان الّذي يفتح أبوابه أمام براعم قست عليهم الحياة قبل أن تتفتّح، فأفقدتهم أحد الوالدين، أو وضعتهم في كنف عائلة تفكّكت روابطها وتزعزع استقرارها، أو طرق بابها الفقر والعوز آبيًا أن يغادرها بسهولة، فكبروا قبل أوانهم وأضحى الخيار الوحيد: مؤسّسة مار أنطونيوس البدوانيّ.

ولكن قبل قبول الأطفال، أكانوا أصحّاء أو من ذوي الاحتياجات الخاصّة، تقابل الأهل مرشدة نفسيّة وأخرى إجتماعيّة تعيّنها وزارة الشّؤون لتشخيص الحالات، ليبدأوا فور قبولهم حياة جديدة تقوم على نظام يوميّ، شبيه بنظام مدرسة داخليّة. فبعد الاستيقاظ وتناول الفطور، يتوجّه الأطفال إلى مدرسة مار أنطونيوس التّكميليّة التّابعة لدير مار يعقوب كرم سدّة، ليعودوا بعدها إلى المؤسّسة حيث يتناولون الغداء كعائلة واحدة في قاعتي الطّعام، الأولى للبنات والثّانية للصّبيان، تليه استراحة لمدّة ساعة قبل إتمام الواجبات المدرسيّة داخل الصّفوف الّتي خصّصتها المؤسّسة للتّعليم معيّنة مدرّسات تسع، يتابعن التّلاميذ في دروسهم ويكرّسن مجهودًا خاصًّا لذوي الاحتياجات الخاصّة والعناية المشدّدة بينهم، متمّمات مهمّتهنّ الّتي ما أن تنتهي حتّى يتناول الأطفال عشاءهم، يستحمّون ويخلدون إلى النّوم في غرفهم المتوزّعة بين طابقين، الأوّل للفتيات والثّاني للصّبيان، حيث وضعت أسرّتهم جنبًا إلى جنب بأعداد كبيرة. ولكن هذه الغرف يعطّرها دفء إستثنائيّ، ليس فقط دفء مبعوث من البطّانيّات وإنّما أيضًا تبثّه الرّاهبة السّاهرة ومساعداتها في كلّ مهجع، فينام الأطفال مطمئنّي البال أنّ عينًا تحميهم وقلبًا يخاف عليهم كقلب الأمّ وكتفًا يستريح بجانبهم وإنّما متأهّبًا ليحمل وجعهم ويبلسم ألمهم، وربًّا يباركهم ويرعاهم ويستمع إلى صلواتهم بخاصّة من خلال القدّاس اليوميّ الّذي يشاركون به في كنيسة البيت الصّغيرة.

نعم، هي مؤسّسة اجتماعيّة ولكن أقرب منها إلى بيت متواضع، فيه يتعلّمون أصول التّربية الصّالحة والمسؤوليّة، يتنشّقون محبّة وخدمة، يتعاضدون في "الحلوة والمرّة"، يتعاركون كالأخوة ويتصالحون بعد دقيقتين. هنا يتشرّبون العلم وينتهلون من نبع إيمان تزرعه راهبات العائلة المقدّسة اللّواتي تراهنّ جاهزات دائمًا للتّدخّل وحماية أطفالهنّ ولو اضطرّهنّ الأمر إلى التّوجّه نحو محكمة الأحداث.

من زواياه تفوح رائحة الوفاء ممزوجة بتلك المتصاعدة من المطبخ مذكّرة الزّائر أنّ داخل هذه الجدران تعيش عائلة كبيرة يوحّدها حبّ أكبر.

يغادر الأطفال المؤسّسة في عطل نهاية الأسبوع وفي العطل الصّيفيّة، ليزوروا ذويهم حيث يواجهون الظّروف الصّعبة الّتي هربوا منها ولكن الّتي لا بدّ من مواجهتها ليفهموا الحياة من مختلف جوانبها فيتحضّرون للمستقبل الّذي ينتظرهم بعد مغادرتهم المؤسّسة، فلا يصدمهم الواقع. وعندما يعودون يجدون علامات التّرحيب ذاتها دومًا بادية على وجوه الرّاهبات الثّلاث اللّواتي لا يفوّتن فرصة في بحر الأسبوع إلّا ويملأنها بالنّشاطات التّرفيهيّة بالتّنسيق مع جمعيّات عديدة وبخاصّة في زمن الأعياد.

أمّا أجمل المناسبات، فهو عيد الميلاد، إذ فضلاً عن الزّاد الرّوحيّ، يتلقّى الأطفال هدايا العيد بكمّيّات كبيرة يقدّمها محسنون بالتّنسيق مع الرّاهبات تلبية لحاجاتهم، فتخترق قلوبهم بهجة عارمة وملحوظة تلخّص طبيعة عيش 120 طفلاً في مؤسّسة "كفرفو" حتّى لحظة الفراق، حين يحزم كلّ من بلغ السّادسة عشرة من عمره حقائبه وينطلق في معترك الحياة مسلّحًا بالإيمان والعلم والانضباط مواجهًا بها كلّ العقبات، من دون فقدان الاتّصال مع من سهرن عليه طيلة تلك الأعوام.

تلك هي باختصار الحياة في مؤسّسة مار أنطونيوس البداونيّ الاجتماعيّة. واليوم، في اليوم العالميّ لحقوق الطّفل، نحمل في بالنا كلّ طفل طرق باب هذه الدّار ليستعيد طفولته البريئة وأحلامه الورديّة، نذكره لكي ينعم بالاستقرار والأمان لاسيّما بعد المغادرة، ونصلّي من أجل أن يحفظ كلّ يد مُدّت لانتشالهم من عوزهم على أنواعه لكي تلقى لدى الله ثوابها ويقتدي بخطاها الكثيرون عسى أجيال الغد تتعلّم من أخطاء الكبار فلا يكرّرون أفعالهم!