دينيّة
24 كانون الأول 2019, 14:00

خاصّ- وُلِدَ لنا المسيح المخلّص… هلّلويا!

غلوريا بو خليل
عندما نقرأ جيّدًا إنجيل الميلاد نرى كيف أنّ الله حقَّق مشروعه الخلاصيّ من خلال الأحداث البشريّة التّاريخيّة. هو لم يجترحْ له مسارًا خاصًّا خارج إطار الحياة الطّبيعيّة، بل دَخَلَ فيها ومشى معها، بصمتٍ وانتظار، جاعلاً من حدثه جزءًا من أحداث النّاس. وتحقيقًا للمشروع الخلاصيّ، لبّى يوسف ومريم طلبَ أغوسطس قيصر ليَكتتبَ كلٌّ في مدينته على غِرار جميع سكّان المنطقة، وكونهما من بيتَ لحم، مدينة دَاوُدَ، صعدا إليها من النّاصرة. هنا ساءلتُ نفسي، يقول رئيس أنطش سيّدة التّلّة - دير القمر وخادمه الأب جوزف أبي عون الرّاهب المارونيّ المريميّ لموقعنا، هل كان يوسف يُدركُ تمامًا ما كان ينتظره في آخر هذا المشوار والطّريقة التي ستتّم فيها ولادة مريم لابنها يسوع؟

 

"رائع يوسف!"، يضيف واصفًا، "قام ومشى واضعًا ذاته بكلّيتها في خدمة هذا الـ "قدّوس الله" والّذي سيسميّه "يسوع" أيّ الله يخلّص. مشروع الله الخلاصيّ يمشي بهدوء بين كافّة النّاس مع يوسف ومريم والجنين الإلهيّ في حشاها". وأكمل "رأيتُ، من خلال هذا "المشي الخلاصيّ" بين النّاس، الكنيسة. فعائلة النّاصرة هي أوّل كنيسة تجسّد معناها الجوهريّ الحقيقيّ "أن تمشي"، "أن تسير". والكنيسة هي "المشي والسير معًا" بين النّاس نحو النّاس، ومن النّاس صوب الملكوت. وعندما تتوقّف الكنيسة عن أن تكون "حالة مشي وسير" تَفقدُ هوّيتها ولا تكون كنيسة."

واضعًا ذاته أمام مشهديّة سفر يوسف ومريم، يتأمّل الأب أبي عون قائلًا: "وقتٌ طويل، بين النّاصرة وبيت لحم، ومريم في زمنها الأخير من حبلها. سفرٌ فيه تعبٌ ووهنٌ وطول انتظار. يوسف هنا إلى جانبها، يده بيدها، عيناه عليها، ينتبه بحبّ وحنان إلى كلّ حركة من زوجته. وبعد مضيّ وقتٍ من السّير، بدا التّعبُ على مريم. أتخيّل يوسف كأيّ زوجٍ في مثلِ هذه الحالة، يشجّع زوجته ويطمئنها قائلاً: "سوف نصل زوجتي الحبيبة، لم يبقَ إلاّ القليل من الوقت". وها هي مريم تتقوّى بزوجها يوسف وبالّذي تحمله بصمتٍ في أحشائها. كم أنتِ عظيمةٌ يا مريم في مجهودكِ وصمتِك. كنتِ على الأرجح بين جموع كثيرة من مواطني أرضكِ وبلدتكِ وعشيرتِك، المتوجهين أيضًا ناحية الجنوب للاكتتاب، وما انفكّيتِ أنتِ صامتة. ما هذا الله الّذي خلقنا وخلقَ "كلّ ما يُرى وما لا يُرى" اختار أن يكونَ صامتًا في حشا أمّ من أرضنا وطبيعتنا وجلدِنا! بين يوسف ومريم والجنين في حشاها، قصّة جميلة لا شكّ بأنّهما تحدّثا بها خلال طريقهما وصلّيا وجدّدا العزم بالسّير حتى الرّمق الأخير بمغامرة الحبّ هذه."

واستطرد في تأمّله، "وصلا إلى بيت لحم، كما يخبرنا الإنجيليّ لوقا: "وفيما كانا هناك، تمّت أيّامها لتلِد، فولَدتْ ابنَها البكر، فقمّطتهُ، وأضجعته في مذود، لأنّه لم يكنْ لهما موضعٌ في قاعة الضّيوف (لوقا 2 :6). فقول لوقا إذًا "وفيما كانا هناك" يدلّ بأنّ زمن ولادة مريم لم يحصل مباشرة لدى وصولهما إلى بيتَ لحم. أي ليس عند وصولهما مباشرة راحا يبحثانِ عن مكانٍ لهما فلمْ يجداه، ممّا اضّطرهما الالتجاء إلى مغارة أو إسطبل للحيوانات. "فيما كانا هناك" تعبير واضح يعني "ربّما بعد يومٍ أو يومين أو أسبوع". وأعتقد بأنّ يوسف قام بالاكتتاب قبل حدوث الولادة. وخلال تواجدهما هناك، أي بعد فترةٍ من وصولهما، تمّت أيّام مريم لتلد. فأين كانا خلال هذه الفترة؟ بالطّبع، كما يوردُ الإنجيليّ لوقا، في قاعة الضّيوف. لقد أقاما مع جميع القادمين للاكتتاب في تلك القاعة. لكن، بما أنّ للولادة عمومًا أحكامها وقدسيّتها واحترامها وسرّيتها، فكان من الصّعب أن تتّم الولادة أمام أعين الجميع. ولمّا لم يتمكّنا من إيجاد مكان محايد، منعزل، خاصٍّ بهما في قاعة الضّيوف، لا شكّ بأنّ صاحب تلك القاعة اقترح عليهما تلكَ المغارة أو مكان أكل الحيوانات المجاور. وعلى الرّغم من خطورة هذه الولادة وأهميّة التّواجد بمكان آمنٍ ولائق، لَمْ يَصدر من يوسف أو مريم أيّ ردّة فعل، فهما لم يعترضا لأنّ الجنين الذي سيولد هو الله بذاته، هو المسيح الرّبّ المنتظر منذ أجيال، هو الملك الحقيقيّ على عرش دَاوُدَ. وهما وحدهما، بدون أيّ مرافقة، لا من أصحاب القاعة أو من الأصدقاء أو الأنسباء، ينسحبان بصمت وسكوت وإذعان وخشوع ورباطة جأش ويتوجهّان في نصفِ اللّيل صوب مكان الولادة. فهناك، لم يكن لهما موضع، ولم ينتبه الجمع بأنّ ذاك الجنين السّاكن في أحشاء مريم هو الله."

وأكمل الأب أبي عون، "في مذود لأكل الحيوانات وضعتْ مريم طفلها يسوع. طفل إلهيّ لم يلامس عند خروجه إلى الأرض، لا القصور ولا الأسرّة ولا أمكنة الرّاحة الطّبيعيّة لمختلف النّاس، بل طعام الحيوانات الّذي يوضع لهم في المذود. وكانت أوّل لمسة له، بعد لمسة يديْ أمّه مريم، التبن والحشيش وعودان المذود".

وإختتم الأب أبي عون تأمّله بالحديث عن الحبّ الإلهيّ الصّادق "حبّ يتسلّل إلينا من المكان الّذي لا أحدَ يُعيره اهتمام، ليتمكّن من لمسِ الّذين لا أحدَ يُعيرهم أيّ اهتمام أو انتباه في هذا العالم. من المذود الفقير الحقير المتواضع، إلى كلّ مذود يتألم فيه إنسان بصمت. فمن هنا بدأت الحياة، وهي تستمرّ فينا ومن خلالنا، على مثال الرّعاة الذين كانت دهشتهم كبيرة لرؤيتهم الطّفل كما أعلمهم الملاك، فعادوا وراحوا يعلنون بفرح الخبر عاليًا. وما المغارة والشّجرة والزّينة في الكنائس والأديار والبيوت والشّوارع والأحياء والمؤسّسات سوى جزء بسيط من إعلان هؤلاء الرّعاة إلى كلّ الملأ: "لقد وُلِدَ لنا المسيح المخلّص… هلّلويا!".