رسالة البطريرك ساكو بمناسبة الصّوم الكبير لعام 2018
يعيشُ العديدُ من المسيحيين أزمة إيمانيّة وفكريّة بسبب ظروف الحرب وحالة عدم الاستقرار والهجرة وتشتت أفراد العائلة الواحدة في عدة بلدان، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على تفاصيل حياتهم اليومية؛ لكن، تحديات المرحلة الراهنة هذه لا ينبغي أن تثبط من عزيمتهم وتُثنِهم عن تجديد إيمانهم وتعميقه ليشهدوا للربّ وكنيسته، بل، يجب أن تزيدهم قوة وثقة وحماسة مثل القوّة التي تبثّها الخميرة في العجينة والملح في الطّعام والنّور في الظّلمة.
يُعَدُّ الصوم الكبير من أهم صياماتنا. إنّه زمن يركز فيه المؤمنون على ذكرى صوم المسيح وآلامه، بالانقطاع عن تناول الطعام والشراب، ونبذ كل ما يشوّه صورة المسيحي الحقيقي من علاقات غير شرعية، ومختلف أنواع الشرور، والعمل بثقة كبيرة وحماسة ومثابَرة على تطهير الذات من شهواتها وطموحاتها، وممارسة شيء من الزهد، والمواظبة على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس، وخدمة المحبة استعداداً للاحتفال بقيامة المسيح من بين الأموات. انّها أيضاً فرصة لتقديم الشكر لله على محبته غير المشروطة ونعَمه الغزيرة.
ينبغي أن تُبنى خياراتنا كمسيحيين، وعلى كل المستويات، وفقاً لإرادة الله، وانطلاقاً من إنجيل يسوع المسيح، كي نتقدم إلى الأمام.
يعلمنا الانجيل أنّ الوجود المسيحي يرتكز على أجوبة يسوع الثلاثة، ردّاً على التّجارب الثلاث في نهاية صومه، معلناً بذلك التحرير الكامل الذي يأتي به الانجيل في قطاعات الحياة البشرية الثلاثة، جاعلاً إياها موضوع هداية دائمية:
قطاع الملكية: الحياة الاقتصادية
قطاع الحياة العاطفية
قطاع السلطة والحياة
ما دامت تجارب يسوع هي نفسها تجارب المسيحيين، ولكي نجعل من صيامنا، زمناً روحياً قوّياً، نأمل أن تتمحور تأملاتنا ونشاطاتنا خلال أسابيع الصّيام السبعة لهذا العام 2018 حول:
الصّيام كل أيام فترة الصّوم ما عدا الآحاد، وحضور القدّاس اليومي والصّلاة المستمرّة من أجل إحلال السّلام والاستقرار في بلدنا العراق والمنطقة.
قراءة يوميّة تأمليّة للكتاب المقدّس، نصغي فيها إلى صوت الله ليقودنا في حياتنا الشخصيّة والجماعيّة: "…كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي…" (مزمور 119).
ممارسة خدمة المحبة: هذه الخدمة تتطلب المبادرة الشجاعة والسخاء لبذل ما نوفره من المال خلال صيامنا للمساهمة بترميم بيوت العائلات المهجَّرة وعودتها السريعة الى ديارها، ومساعدة المرضى، والفقراء. خدمتنا لإخوتنا المعوزين هي أقوى تعبير للمحبة: "كل ما تفعلونه بأحد اخوتي هؤلاء الصّغار فبي قد فعلتموه"(متى 25/40). لا ننسى أنّ كل عمل خير (المحبة والرحمة) نقوم به يصبّ في قلب الله. لنستمع الى النبي أشعيا يصف الصوم الحقيقي:"ألَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ" (اشعيا 58/6-9).
الصّوم زمن لعيش سر الغفران لنا شخصياً وللآخرين والذي يوصلنا حتماً الى تحقيق المصالحة مع أنفسنا ومع اخوتنا. إذ انّ الكثير من الحزن الذي يصيب حياتنا الشخصية سببه الإصرار على عدم المغفرة.
الكفّ عن إصدار الانتقادات لعيوب الآخرين بسفاهة وشماتة وقلة لياقة. "لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُ لها (متى 7/ 3)، وبالأخصّ توجيه الانتقادات المجحفة بحق الكنيسة، فلا بدّ من التّمييز بين الحقيقة والشائعات.
السّعي لتحقيق وحدة المسيحيين بقلوب منفتحة والتمسك بوجودهم ضمن النسيج الوطني العراقي المتعدّد والعمل على رفعِ الحيف عنهم وعدم السماح لتراجع الحضور المسيحي التاريخي في هذه البلاد. نؤكّد هنا، أنّ للمسيحيين دور ورسالة.
ترسيخ التعايش المسيحي-الإسلامي بالمحبّة الحقيقيّة التي علّمنا إياها المسيح. علينا تحمل مسؤوليّاتنا، من خلال الحوار الصادق والحكمة والرؤية لنكون نماذج فاعلة في العيش المشترك في تحقيق السّلام والاستقرار والحرية والكرامة للجميع. هذا السّلام الذي سيتحقّق بالنّصر السياسي والإصلاح الإداري، والنّهضة الاقتصاديّة التي تقي المال العام من السرقة. لذا أُشّجع المسيحيين على أن يكونوا عنصراً فعّالاً ومؤثراً في ذلك، بمشاركتهم الجادة والكثيفة في الانتخابات القادمة وباختيار الأنسب والأحسن من أجل التغيير والإصلاح.
أدامه الله صوماً مباركاً لجميعنا.
