لبنان
24 كانون الأول 2021, 06:00

رسالة الميلاد للبطريرك يونان، ماذا في مضمونها؟

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان رسالته الميلاديّة إلى إكليروس كنيسته ومؤمنيها، تحت عنوان "يسوع مخلّصنا"، جاء فيها:

"إلى إخوتنا الأجلّاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الاحترام

وأولادنا الخوارنة والكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات الأفاضل، وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرّبّ

اللّائذين بالكرسيّ البطريركيّ الأنطاكيّ في لبنان وبلاد الشّرق وعالم الانتشار

نهديكم البركة الرّسوليّة والمحبّة والدّعاء والسّلام بالرّبّ يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:

" ܝܶܫܽܘܥ ܦܳܪܽܘܩܰܢ"

"يسوع مخلّصنا"  

"لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متّى 1: 21)

1. مقدّمة

في مستهلّ رسالتنا الميلاديّة، يسرّنا أن نتقدّم بأحرّ التّهاني القلبيّة مع الأدعية الأبويّة، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد وحلول العام الجديد 2022، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلّاء آباء السّينودس المقدّس لكنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربيّ والأراضي المقدّسة والأردنّ ومصر وتركيا وأوروبا والأميركيّتين وأستراليا.

وإلى يسوع مخلّصنا المولود طفلًا في مذود بيت لحم، نضرع كي يمنحنا والعالم بأسره فيض مواهبه وعطاياه وبركاته، وينجّينا من كلّ الأمراض والأوبئة والأخطار، ويسكب في قلوبنا الرّجاء المنبعث من ميلاده العجيب، لتنعم المسكونة كلّها بعامٍ جديدٍ مكلَّلٍ بالسّلام والأمان والطّمأنينة والاستقرار، ويتمتّع الجميع بالصّحّة والعافية نفسًا وجسدًا، فيعمّ الفرح الرّوحيّ والوحدة والمحبّة والألفة في العائلات والمجتمعات والأوطان.

2. ميلاد يسوع الإله المتجسّد

إنّه ميلاد يسوع المسيح، الإله المتجسّد، ابن الله الوحيد، الّذي تجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء، والّذي في ليلة ميلاده، زارت السّماءُ أهلَ الأرض لتخبرهم عن عطيّة الله العظمى الّتي أغدقها على البشريّة المعذَّبة.

ننشد في صلواتنا صباح الأربعاء بالسّريانية:  

"ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܶܗ ܠܰܐܒܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ ܕܫܰܕܰܪ ܠܰܒܪܶܗ ܩܰܕܺܝܫܳܐ܆ ܘܰܒܥܽܘܒܳܐ ܕܰܟܝܳܐ ܘܩܰܕܺܝܫܳܐ ܢܚܶܬ ܘܰܫܪܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐܺܝܬ܆ ܗܘܳܐ ܓܶܝܪ ܡܶܢܰܢ ܘܰܐܟܘܳܬܰܢ ܕܰܚܢܰܢ ܢܶܗܘܶܐ ܐܰܟܘܳܬܶܗ܆ ܗܘܳܐ ܒܨܶܒܝܳܢܶܗ ܒܰܪܢܳܫܳܐ ܕܢܶܥܒܶܕ ܠܰܢ ܒܢܰܝ̈ܳܐ ܠܰܐܒܽܘܗ̱ܝ܆ ܘܫܰܘܬܳܦ̈ܶܐ ܠܪܽܘܚܳܐ ܕܩܽܘܕܫܳܐ". وترجمته: "المجد للآب القدّوس، الّذي أرسل ابنه القدّوس، فنزل وحلّ بالقداسة في الحضن الطّاهر القدّوس، وقد أضحى مِنّا ومثلنا، كي نصبح نحن مثله، أضحى بشرًا بإرادته، كي يجعلنا أبناءً لأبيه، وشركاءَ الرّوح القدس."  

أجل، بدّل ميلاد يسوع مخلّصنا مسارَ التّاريخ البشريّ بأسره، وأعطى الإنسانَ هدفًا يسمو إليه، وهو الاتّحاد بالله الخالق والمدبّر.  

3. الخلاص الموعود للبشريّة  

في جنّة عدن، فَقَدَ الإنسان، أسمى الخلائق، عهد الصّداقة مع باريه الّذي كوّنه على "صورته ومثاله"، وقال إنّه "حسنٌ جدًا" (تكوين 1: 31). فَقدَ آدم سعادته الحقيقيّة بالكبرياء، وهي أبشع الخطايا، الّتي جعلَتْه يستحقّ عقابه العادل، لأنّ الخالق هو إلهٌ عادل وقدّوس، "يحتمل الإثم والمعصية والخطيئة، ولكنّه لا يترك شيئًا دون عقاب" (خروج 34: 7). فكان له إمّا أن يَدين الجنس البشريّ بلا رحمة، أو أن يمنحه الخلاص. ولأنّ إلهنا هو المحبّة، اتّخذ في اكتمال الزّمن بادرةً أبويّةً تسمو على العقل البشريّ لاستعادة خليقته الحسنة جدًّا، فأرسل كلمته الأزليّ، ابنه الوحيد متأنّسًا، "يسوع الّذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متّى 1: 21).

يهتف مار أفرام السّريانيّ ملفان الكنيسة الجامعة ممجّدًا يسوع الطّفل الإلهيّ:

"ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܳܟ ܡܳܪܝ ܕܰܒܡܰܘܠܳܕܳܟ ܦܪܰܩܬ ܒܶܪ̈ܝܳܬܳܐ ܡܶܢ ܫܽܘܥܒܳܕܳܐ ܕܰܚܛܺܝܬܳܐ"، وترجمته: "المجد لكَ يا ربّ، إذ بميلادك خلّصتَ البرايا من عبوديّة الخطيئة" (من صلاة القومة الثّانية في يوم عيد الميلاد، كتاب الفنقيث، الجزء الأوّل، صفحة 486).  

كان هناك وعدٌ بمجيء "المخلّص" حتّى في اللّعنة الّتي لفظَها الله على الحيّة: "وأضعُ عداوةً بينكِ وبين المرأة وبين نسلكِ ونسلها، هو يسحقُ رأسكِ وأنتِ تسحَقينَ عَقِبَهُ" (تكوين 3: 15). وقد تكرّر هذا الوعد مرارًا في الأجيال اللّاحقة، وظلَّ النّاس يتطلّعون برجاء وشوق، مؤمنين وواثقين بمجيء ذلك المخلّص. "أمّا الإيمان، فهو الثّقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى" (عبرانيّين 11: 1). بهذا الإيمان، كسب رجال الله قديمًا شهادةً حسنةً أمام الله والناس، ومنهم ابراهيم الّذي لبّى دعوة الله، فتَرَكَ وطنه وانطلق إلى أرضٍ أخرى وعده الله بها. لم يكن يعلم أين يذهب، إنّما تَبِع ذلك الصّوت الّذي أشعره بالأمان والسّلام والثّقة، فآمن وامرأته سارة بأنّ الله، الّذي وعدهما بابنٍ في شيخوختهما، لا بدّ أن يحقّق وعده. وهكذا أصبح ابراهيم أبًا للمؤمنين، وصارَ له شعب كبير.

4. الخلاص عطيّة مجّانيّة  

رافق الله شعبه ولم يتخلَّ عنه يومًا، بل كلّمه بأنبياءٍ كثيرين، بأنواعٍ وطرقٍ شتّى، "ولمّا تمّ ملء الزّمان كلَّمَنا في ابنه"، الكلمة الأزليّ، وأرسله "مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس، ليفتدي الّذين تحت النّاموس، لننال التّبنّي" (غلاطية 4: 4-5).  

في تلك الليلة المقدّسة، ليلة ميلاد يسوع المخلّص، ظهر نورٌ من السّماء ليمحو عتمة الأرض. "أشرق مجد الرّبّ حولهم" (لوقا 2: 9)، وما هذا النّور إلّا "نعمة الله" الّتي هي "ينبوع الخلاص لجميع النّاس" (تيطس 2: 11). وُلِدَ يسوع في بيت لحم، وبميلاده تجلّى حبّ الله لنا: الحبّ الإلهيّ الّذي يحرّر من الشّرّ، ويغيّر الحياة، ويجدّد التّاريخ، وينشر السّلام والفرح. إنّه يسوع، الإله المتجسّد الّذي صار بشرًا وحلَّ فينا.

إنّ تنازُل الله نحو الإنسان في سرّ التّجسّد هو "نعمة" مجّانيّة، نقبلها شاكرين وممجّدين. "نقبل الهبة الّتي هي يسوع، كي نصبح مثله. وأن نكون هبة يعني أن نعطي معنى لحياتنا. وهي الطّريقة الأفضل لنغيّر العالم... فيسوع لم يغيّر التّاريخ عبر إرغام الأشخاص أو بقوّة الكلمات، إنّما عبر بَذْلِ حياته. لم ينتظر حتّى نصبح صالحين فنحبّ بعضنا بعضًا، إنّما أعطانا ذاته مجّانًا... نحن أيضًا، لا يجب أن ننتظر أن يصبح الآخر صالحًا كي نصنع معه الخير... وأن يقدّرَنا الآخرون كي نخدمهم، لنأخذْ نحن المبادرة. هذا ما يعنيه قبول هبة النّعمة، والقداسة ليست إلّا الحفاظ على هذه المجّانيّة" (من موعظة قداسة البابا فرنسيس في قدّاس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القدّيس بطرس، الفاتيكان، الثّلاثاء 24 كانون الأوّل 2019).  

5. ميلاد يسوع يُحرّرنا  

لقد حلّ كلمة الله على أرضنا مولودًا في مذود كي يمنحنا الحياة، و"الحياة بوفرة" (يوحنّا 10: 10). عاشَ بيننا وعرف ضعفَ بشريّتنا، ما عدا الخطيئة، لأنّه يحبّنا، ويريد أن نكون في شركة دائمة معه. لقد "حَمَلَ خطايانا في جسده على الصّليب" (1بطرس 2: 24)، محقّقًا لنا المصالحة مع الآب السّماويّ، داعيًا إيّانا كي نتجاوبَ مع بادرتِه الحبّيّة، فنتوب ونؤمن به، فهو يخلّصنا من خطايانا ويصالحنا مع الله.

في تأنُّس كلمة الله- يسوع، نتحرّر من كبريائنا العاصية، ومن رواسب هذه الكبرياء نقائصُنا وخطايانا. بعطيّة الميلاد نستطيع التّحليق في سماء الحرّيّة الحقيقيّة الّتي بها ننال البنوّة الإلهيّة. بسرّ التّجسّد نفهم حقيقة التّواضع والوداعة وبذل الذّات، الّتي تدعونا كي نتغلّب على الأنانيّة الّتي نُجرَّب بها بأبشع الطّرق، والّتي تشوّه صورة الله فينا. ففكرة أنّ الخلاص تحقّق، لا تعني أن نكونَ "عمّالًا بطّالين" (متّى 20: 3). بل علينا أن نتغلّب على أهوائنا الّتي تُعيق مسيرتنا نحو القداسة بتفعيل نعمة الخلاص الّتي حملها إلينا مولود بيت لحم.

نحن مدعوّون أن نؤمن بأعجوبة الحبّ الإلهيّ، ونعيش هذا الحبّ بالصّدق الّذي يحرّرنا من المراءاة الّتي نلجأ إليها كي نبرّر نقائصنا، ومن الاعتداد بالنّفس الّذي يبني حاجزًا بيننا وبين الآخرين، ومن التّباهي بذواتنا لدى إحرازنا نجاحًا. حرّيّتنا كمؤمنين بسرّ التّجسّد هي أن نسمح للرّوح القدس أن يُتِمّ فينا نِعَمَه، فننشر اسمَ يسوع وخلاصه أينما حَلَلْنا.  

6. إسم يسوع: رجاء الكون وسلام العالم

أُعطِيَ يوسف، نجّار النّاصرة، نعمةً فائقة، هي أن يصبح شاهدًا لأعجوبة التّأنّس الإلهيّ، ومربّيًا وحاميًا للطّفل ووالدته العذراء مريم. لقد طلب منه الملاك أن يسمّي الطّفل "يسوع أيّ الله يخلّص". وهذا الاسم حسب القدّيس بولس يعلو على كلّ اسم، لقد "أعطاه اسمًا فوق كلّ اسمٍ، لكي تجثو لاسم يسوع كلّ ركبةٍ ممَّنْ في السّماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كلّ لسانٍ أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب" (فيلبّي 2: 9-10). فلا خلاص إلّا بيسوع، "لأنْ ليس اسمٌ آخر تحت السّماء قد أُعطِيَ بين النّاس، به ينبغي أن نخلص" (أعمال 4: 12). يسوع الإله الكامل والإنسان الكامل "عمّانوئيل أيّ الله معنا" (متّى 1: 23) هو "العلامة العَجَب" على حضور الله الخلاصيّ في قلب البشريّة.

نفتخر، نحن المؤمنين، باسم يسوع، لأنّه الرّجاء الّذي به نتعزّى ونتقوّى، وبه وحده ينال العالم السّلام الحقيقيّ، شرط أن يسعى الجميع إلى إحلال السّلام. بإسم يسوع لا يخجل المؤمنون، مهما ازداد العالم كفرًا، ومهما كَثُرَ التّبجّح لدى بعض المتسلّطين بإنجازاتهم العلميّة والتّقنيّة، أو بثرواتهم المادّيّة، أو بقدراتهم على استغلال الشّعوب الضّعيفة، بأساليب الخداع المتنوّعة.  

مع يوسف الرّجل البارّ خطّيب مريم، نفهم أنّ الدّعوة لعيش الحياة مع يسوع ليست هروبًا من الواقع، بل طاعةً لله في قلب هذا الواقع، حتّى ولو كان صعبًا ومليئًا بالعقبات (متّى 2: 13). من يوسف، نتعلّم الإصغاء إلى صوت الله والإقرار بتدبيره الخلاصيّ. معه ندرك أنّ صوت الله سيرافقنا دومًا ولن نصغي إلّا إليه (متّى 2: 19-20). لذا علينا أن نسير على هدي هذا الصّوت، ونحمله كلمة مُطمئِنة إلى العالم. إنّ عظمة دعوتنا المسيحيّة لا تكون بالأعمال الخارقة، إنّما بالاعتراف أمام كلّ من يسأل عن سبب سعادتنا الرّوحيّة في داخلنا، بأنّ اسم يسوع هو خلاصنا، فهو الّذي يحمل لنا الرّجاء الوطيد والسّلام الحقيقيّ. "فالسّلام في كلّ عصر هو عطيّة من العلى وثمرة التزام مشترك"، على حدّ تعبير قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة يوم السّلام العالميّ للعام الجديد 2022.  

7. ميلاد يسوع هو عيد الفرح  

وُلِدَ يسوع فقيرًا متجرّدًا، كي يربح الإنسان بغنى حبّه، ويملأ بفرح الخلاص قلوب البشر الّذين يقبلونه. هذا هو الفرح الّذي غمرَنا به الله، نبع المراحم اللّامتناهية، والّذي يدعونا إلى مشاركته والاحتفال به، وإلى التّبشير به في العالم أجمع.  

يقودنا هذا العيد لنرى الله حاضرًا في كلّ الأوضاع الّتي نظنّه فيها غائبًا. فهو حاضر أينما ذهبنا وتوجّهنا، ويسير قربنا دومًا، وحاضر لدى من نلتقي بهم، وهو "واقفٌ على أبوابنا يقرع" (رؤ3: 20).

"في طفل بيت لحم، يأتي الله للقائنا كي يجعل منّا أبطال الحياة الّتي تحيط بنا. يقدّم ذاته كي نحمله ونرفعه بين أيدينا وكي نغمره حبًّا وشكرًا. ومن خلاله، نرفع ونغمر العطشان والنّزيل والعريان والمريض والمسجون" (را. متّى 25: 35-36) (من موعظة قداسة البابا فرنسيس خلال قدّاس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القدّيس بطرس، الفاتيكان، الثّلاثاء 24 كانون الأوّل 2017). فلا نخافنَّ بعد اليوم، بل "افتحوا، وشرِّعوا الأبواب للمسيح" (من موعظة قداس بدء حبريّة البابا القديس يوحنّا بولس الثّاني، 22 تشرين الأوّل 1978). فالرّبّ يسوع يدعونا كي نكونَ رُسُلَ فرحٍ ورجاءٍ وحرّاسًا لكثيرين ألقَتِ الحياةُ بعبئها على أكتافهم وأنْهكَتْهم.

وها هو مار يعقوب السّروجيّ الملفان، الّذي تحيي الكنيسة هذا العام ذكرى 1500 سنة على رقاده، يتهلّل بالفرح الّذي يعمّ السّماء والأرض بميلاد يسوع مخلّصنا:

"ܢܶܪܥܰܡ ܫܽܘܒܚܳܐ ܕܣܶܕܪ̈ܰܝ ܢܽܘܪܳܐ ܒܝܰܠܕܳܟ ܡܳܪܰܢ܆ ܘܢܰܦܪܶܐ ܟܝܳܢܳܐ ܕܝܰܠܕ̈ܰܘܗ̱ܝ ܕܳܐܕܳܡ ܟܽܠ ܬܰܘܕܺܝܬܳܐ. ܫܡܰܝܳܐ ܘܰܐܪܥܳܐ ܘܝܰܡܳܐ ܘܝܰܒܫܳܐ ܫܽܘܒܚܳܐ ܢܶܩܥܽܘܢ܆ ܒܝܽܘܡ ܡܰܘܠܳܕܳܟ ܕܰܐܦܨܰܚ ܐܶܢܽܘܢ ܠܳܟ ܬܶܫܒܽܘܚܬܳܐ»، وترجمته: "فليعمّ المجد صفوف النّورانيّين في ميلادك يا ربّ، وليؤدِّ الكيان البشريّ (بني آدم) كلّ شكرٍ. السّماء والأرض والبحر واليابسة تهتف ممجّدةً في يوم ميلادك الّذي أبهج الجميع، لكَ التّسبيح!" (من باعوث أيّ طلبة مار يعقوب السّروجيّ في صلاة مساء يوم عيد الميلاد، كتاب الفنقيث، الجزء الأوّل، صفحة 470).  

ميلاد يسوع يحثّنا أن نولد في داخلنا من جديد، وأن نجد فيه القوّة لمواجهة كلّ محنة، لأنّ ميلاده هو من أجلنا جميعًا. "... صبيٌّ وُلِدَ لنا، وابنًا أُعطينا، وتكون الرّئاسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيسَ السّلام" (أشعيا 9: 6). فقد وُلِدَ ليجعلنا أبناءً وبناتٍ لله محبوبين ومبارَكين بالنّعمة.

وها نحن اليوم في زمن الإعداد للسّينودس العامّ الّذي سيُعقَد في تشرين الأوّل 2023 في روما، بعنوان "الكنيسة السّينودسيّة: شركة ومشاركة ورسالة". كم نحتاج إلى تجسيد بشارة الميلاد، بعيش الشّراكة الرّوحيّة الحقيقيّة، أساقفةً وكهنةً رعاة قطيع الله، مع إخوتهم وأخواتهم المؤمنين، لنكون الشّهود الحقيقيّين للخلاص والرّجاء والسّلام والفرح لجميع المعمورة.

8. صدى العيد في عالمنا اليوم  

لا يزال العالم يئنّ تحت وطأة الظّروف الصّعبة الّتي نشأت نتيجة تفشّي وباء كورونا، وما ترتّب عليها من أزمات اقتصاديّة كبرى، وهي تدخل عامها الثّالث! وماذا نقول عن الأوضاع العصيبة الّتي تعانيها بلدان شرقنا المعذَّبة، من أخطار أمنية وسياسيّة وتحدّيات اجتماعيّة واقتصاديّة.

في لبنان، ها هو عيد ميلاد آخر يطلّ علينا، والوطن يُعاني من الأزمات المتلاحقة لسنوات عديدة سبقت ثورة اللّبنانيّين في تشرين الأوّل 2019، ولا تزال تتعاظم إلى يومنا هذا. فكلّ يوم يحمل وللأسف تطوّرات وأزمات، ولعلّ أبرزها ما نعيشه على مستوى التّدهور الاقتصاديّ والماليّ والانهيار غير المسبوق للّيرة اللّبنانيّة، بحيث لم يعد هنالك من سقف لهذا الانهيار. فبات راتب المواطن اللّبنانيّ لا يكفيه سوى القليل من الأيّام، في ظلّ غياب شبه تامّ لمن يسمّون أنفسهم مسؤولين وقيّمين مفترَضين على شؤون المواطنين. فالكهرباء معطَّلة، والإدارات الرّسمية مقفلة بسبب الإضرابات المحقّة للموظَّفين، والتّهريب على المعابر الشّرعيّة وغير الشّرعيّة مشرَّعٌ على مصراعيه، والقطاع الطّبّيّ في انحدار مأساويّ بدأ بفقدان الأدوية والمعدّات الطّبّيّة، مرورًا بعدم توفّر الكهرباء لتشغيل المستشفيات، وصولًا إلى هجرة الأطبّاء والممرّضين، في حين تتصاعد وتيرة تفشّي وباء كورونا، والمرضى يموتون على أبواب المستشفيات، والوضع لم يسبق له مثيل حتّى خلال سنوات المجاعة والحروب. كما نجد تمادي السّلطة الحاكمة في تعطيل عمل مجلس الوزراء، والعرقلة المتعمَّدة للتّحقيق العدليّ في جريمة تفجير مرفأ بيروت.

ولكن تبقى للبنان بارقة أملٍ من خلال إجراء الانتخابات النّيابيّة في ربيع العام القادم 2022، علَّ اللّبنانيّين يغيّرون، بإرادتهم وبالطّرق الدّيمقراطيّة والسّلميّة، هذه الطّغمة الحاكمة الّتي أوصلَتْهم إلى حالة الإفلاس والجوع، ويعيدون إنتاج سلطة سياسيّة جديدة تكون مؤتمَنةً على مصالحهم وسيادة بلدهم، فتخلّصهم من بؤسهم، وتعيد لبنان إلى سابق عهده من الازدهار والتّطوّر.

نصلّي إلى الطّفل الإلهيّ كي يمنح لبنان استقرارًا ونهايةً سريعةً لدرب آلامه، ليرجع قبلة البلدان شرقًا وغربًا، فينعم أبناؤنا وبناتنا مع جميع المواطنين بالطّمأنينة والعيش الكريم.

وسوريا، لا تزال تعاني آثار الحرب الّتي شارفت على عامها الثّاني عشر، رغم كلّ الجهود الّتي تبذلها الحكومة وأصدقاؤها من أصحاب النّيّات الحسنة، وهي تصارع للخروج من هذا النّفق المظلم الّذي قسّم البلاد وهجّر الملايين من أبنائها، فباتوا لاجئين في أصقاع العالم، وقد لمسنا هذا التّمزّق المؤلم لدى زيارتنا الرّاعويّة الأخيرة إلى أبرشيّة الحسكة ونصّيبين ومنطقة الجزيرة السّوريّة.

فصحيحٌ أنّ أصوات المدافع قد خفتت والحياة عادت إلى طبيعتها في معظم المدن والقرى، والمفاوضات تقدّمت، ولكن للأسف تستمرّ مصالح الدّول الكبرى في التّحكُّم بمصير وطنٍ بأكمله، وبحياة شعبٍ لا يريد سوى السّلام والأمان ليتمكّن من العودة والمساهمة في إعادة إعمار بلده مع من بقي من أهله في الوطن، لأنّ الأوطان لا تُبنى إلّا بسواعد أبنائها. وهذا وحده ما سيخلّص سوريا لتعود إلى التّآخي والاستقرار، فتتخلّص من المجموعات الإرهابيّة والتّكفيريّة الّتي تعيث فسادًا ودمارًا، ليس في سوريا وحدها، بل في الشّرق بأكمله.

إلى يسوع المخلّص نضرع كي يمنّ على هذا البلد بالسّلام والأمان، ليتابع أبناؤنا وبناتنا وجميع إخوتهم في الوطن حياتهم وشهادتهم لربّهم في أرضهم الأمّ، بالمساواة والكرامة الإنسانيّة.

والعراق، الّذي تبارك بالزّيارة التّاريخيّة لقداسة البابا فرنسيس في آذار الماضي، فجدّدت فيه الرّجاء بعيشٍ آمنٍ وأخوّةٍ واحترامٍ متبادَل، نجده وقد شارف على الولادة الجديدة بإرادة مواطنيه، من خلال انتخاباتٍ ديمقراطيّة أنتجت طبقة سياسيّة جديدة علّها تُساهم في إخراج العراق من ظلمات الفساد الّتي تحكّمت طويلًا بمقدّراته وأهدرَتْها. ونحن نؤكّد أنّ المكوّن المسيحيّ أصيلٌ ومؤسِّسٌ في نسيج بلاد الرّافدين، ويجب أن ينال حقّه في المساهمة الفاعلة بإدارة شؤون البلاد أسوةً بسائر المكوّنات الأخرى.

كما نجدّد الدّعاء والشّكر لنجاة رئيس الوزراء من المحاولة الفاشلة لاغتياله، والّتي كان من الممكن أن تُسبّب اضطراباتٍ أمنيّةً لا يريدها ولا يتحمّلها الشّعب العراقيّ العزيز. ونؤكّد على أهمّيّة الوحدة الوطنيّة للنّهوض بالبلاد وازدهارها.

إنّنا نسأل الرّبّ يسوع المولود في مذود بيت لحم، أن يوحّد القلوب ويقوّي العزائم، فينهض العراق بجميع مكوّناته، ويحيا فيه أبناؤنا وبناتنا مع سائر إخوتهم في الوطن بالوحدة والألفة والاستقرار.

ومصر، فإنّنا نعرب عن كامل ارتياحنا لما عاينّاه فيها خلال زيارتنا الرّاعويّة الأخيرة من نهضة وتطوّر، ممّا يجعلها بين مصافّ الدّول المتقدّمة. وهذا جليٌّ في الازدهار العمرانيّ والمدن الحديثة الّتي تُشيَّد، فضلًا عن الاستقرار الاقتصاديّ والمعيشيّ، ما يدفع بنا إلى الثّناء على ما تقوم به قيادة هذا البلد من أجل خير أبنائنا وبناتنا وجميع المواطنين.  

والأراضي المقدّسة، حيث وُلِد ربّنا وعاش وبشّر ومات وقام ليخلّصنا ويمنحنا الحياة، وقد زرناها في تمّوز المنصرم، فإنّنا نجدّد صلاتنا كي تعود أرض سلام ومحبّة لكلّ الشّعوب، لا أرض صراعات وحروب لا طائل لها، تشوّه القيمة التّاريخيّة والإنسانيّة لهذه الأرض المباركة. فيعيش فيها أبناؤنا وبناتنا ويشهدوا لمخلّصهم في الأرض الّتي باركها بتجسّده فيها.

ونتوجّه بقلبنا وفكرنا إلى البلدان الأخرى الّتي يتواجد فيها أبناؤنا وبناتنا، في تركيا والأردنّ والخليج العربيّ، كما في بلدان الانتشار في أوروبا والأميركيّتين وأستراليا، مؤكّدين على ضرورة تمسُّكهم بالإيمان، وتعلّقهم بكنيستهم الأمّ، وتربية أولادهم وفق ما ورثوه من قيم ومبادئ أصيلة، وقد لمسنا محبّتهم والتزامهم الكنسيّ خلال زياراتنا الرّاعويّة لهم.  

كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيّين، سائلين الله أن يرحم الشّهداء ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشّفاء التّامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات الّتي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السّماويّة.

9. خاتمة

يا يسوع إلهنا ومخلّصنا، نأتي إليك خاشعين في عيد ميلادك طفلًا صغيرًا في مذود بيتَ لحم، وفي قلوبنا ترنيمة رجاء وشكر وتسبيح، لأنّك وهبتَنا ذاتكَ عطيّة سامية. نشكرك على تجسّدك بيننا، ونصلّي كي تملأ قلوبنا بالفرح والرّجاء والحبّ. أمطِرْ سلامك على الأرض بأسرها، وبركاتك على البشريّة برمّتها. إغفِر لنا خطايانا، وامنحنا وفرة الحياة بالاتّحاد بك، أنتَ المالك مع أبيك السّماويّ وروحك القدّوس إلى الأبد.

وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الرّوحيّون الأعزّاء، بركتنا الرّسوليّة عربون محبّتنا الأبويّة. ولتشملكم جميعًا نعمة الثّالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين. كلّ عام وأنتم بألف خير.

ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܶܬܺܝܠܶܕ... ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ وُلِدَ المسيح! هلّلويا!".