العراق
21 نيسان 2019, 07:50

ساكو: المسيح عربون قيامتنا، وارتقائنا إلى مستوى آخر من الوجود

لمناسبة عيد القيامة، ترأّس بطريرك بابل للكلدان الكردينال مار لويس روفائيل ساكو، مساء الأمس، قدّاسًا إلهيًّا في كاتدرائيّة مار يوسف الكلدانيّة، خربنده- بغداد. وعاونه المطران البيرتو اورتيغا مارتن، السّفير البابوي، المعاونان البطريركيّان، مار باسيليوس يلدو ومار روبرت سعيد جرجيس، وعدد من الكهنة، بحضور شخصيّات رسميّة وسياسيّة، وحشد من الرّاهبات والمؤمنين.

 

وخلال القدّاس الّذي أقيمت فيه مراسيم إعلان القيامة، ألقى البطريرك ساكو عظة، قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة:
"المسيح قام من بين الأموات هلّلويا،  والعراق لا بدّ أن يقوم من أزماته. هذا هو الاختيار الأصعب. 
من المؤسف أنّ مجتمعاتنا أخذت تغيِّب الله والقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة بشكل متزايد. وأنّ العديد من الأشخاص والمؤسّسات والدّول تعتبر هذه القيم قديمة ونسبيّة لا تتلاءم مع ثقافة اليوم، فالعلمانيّون على سبيل المثال يصرّحون بأنّ الثّقافة العلمانيّة هي أقوى من الدّيانة!
هذه الثّقافة الّتي تفرغ  البشريّة من القيم السّامية تضع عالمنا على المحكّ. ولهذا السّبب رفع يسوع المسيح صوته النبويّ داعيًا إلى ثورة شاملة للتّغيير والإصلاح بمواقف صادقة واحترام  حياة الإنسان وكرامته، كونه مخلوق على صورة الله ومثاله. وندّد بابتزاز النّاس باسم الدّين، لذلك تمّت تصفيته.
علينا أن ندرك أهميّة حاجتنا إلى نور الله لنعيش في قيم المحبّة والعطاء والانفتاح والخدمة والأمانة والاحترام، فيكون لنا السّلام والفرح.  هذا الإيمان أساس حياتنا ومستقبلنا وليست المصالح المادّية الضيّقة.  بهذه الرّوحية والتّمرّس على هذه القيم  بإرادة قويّة يمكننا أن نتحرّر من الخوف والقلق ومن قيود أخرى كثيرة. 
يقول البابا الفخريّ بندكتس السّادس عشر في مقال نشر بمجلّة "كليروسبلات": "لا يمكن للقوّة المضادّة للشّرّ الّذي يهدّدنا ويهدّد العالم بأسره، أن تكون في نهاية المطاف، إلّا من خلال دخولنا في هذا الحبّ. لا يمكن لعالم بدون الله أن يكون سوى عالم بلا معنى، حيث معايير الخير أو الشّرّ لم تعد موجودة فيه، ولم يتبقّ سوى قانون الأقوى( الإرهاب)، فالعالم الّذي يصنع نفسه بنفسه من دون الله يصنع الموت".

ومن ناحيتي أؤكّد أنّ عالمنا الّذي  يتهافت إلى صناعة كلّ أشكال الأسلحة ومنها أسلحة الدّمار الشّامل، يصنع الحروب، ويصنع بالتّالي الموت والدّمار.
نحتفل اليوم بقيامة المسيح، الّذي هو عربون قيامتنا، وارتقائنا إلى مستوى آخر من الوجود والعلاقة.  فالمسيح يدعونا إلى اكتشاف أبوّة الله لنا وحضوره الحيّ بيننا، كما يدعونا  للعودة  إلى أخوّتنا الإنسانيّة. هذه العلاقة الأخويّة الصّادقة تجعلنا أصدقاء نعيش بسلام وتناغم،  ونتقاسم مع بعضنا همومنا وأحزاننا، آمالنا وأفراحنا. صداقة منفتحة، تجعلنا عائلة واحدة. هذا كان المنطلق لوثيقة الأخوّة الإنسانيّة الّتي وقّعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر د. أحمد الطيّب في أبو ظبي.
 يكون الله حاضرًا وحيًّا في حياتنا عندما نكتشف أنّه "محبّة وحيّ" في قلب الكون الجميل الّذي خلقه وأحبّه، والّذي ينبغي أن نندهش من جماله ونحافظ على البيئة – الطّبيعة،  الّتي ينبغي أن تكون  جزءً من كياننا وحياتنا.
 هذا الحضور نعبر عنه بصلاة بسيطة تنبع من قلبنا أو بخدمة المحبّة – عمل الإحسان تجاه المحتاجين، أو تحقيق المصالحة والسّلام.
 من منطلق هذا الإيمان وبالرّغم من كلّ المخاوف، لنا الثّقة المطلقة بأنّ الوقت سيأتي وروح الله سيغيّر قلوب الرّجال والنّساء بشكل أفضل، فيوم الله لا يقاس بأشهر أو سنوات. إنّنا نعلم تمامًا أنّ معاناتنا لن تكون عبثًا، كما لم تكن آلام المسيح للموت النّهائيّ، بل تكلّلت بالقيامة والمجد. العراق بلد الحضارات العريقة، وللعراقيين  فكر وشجاعة،  فلا بدّ أن يتوحّدوا  لاستعادة بناء بلدهم. ولقد صرّح هذا الصباح، دولة رئيس مجلس النّواب، بمناسبة انعقاد مؤتمر مجالس برلمانات الجوار:  إنّ بغداد هي عاصمة السّلام،  بغداد اسمها مدينة السّلام، لكن لقد حوّلها الأشرار  إلى مدينة الصّراعات.
 ما عشناه من ألم وضيق، ومن دماء شهداء، كلّ هذه السّنوات العجاف، سيعمل لا محالة على إيجاد طريقة متناغمة من الحياة معًا بسلام كأخوة وأخوات مسيحيّين ومسلمين وصابئة وإيزيديين. معاناتنا  ينبغي أن تدخلنا كلّ لحظة إلى معرفة سرّ حضور الله بيننا ، الله المحبّة والرّحمة، وتساعدنا على اكتشاف هذا الأمل – الرّجاء الّذي ليس وهمًا، بل وعد من الله أبينا بأرض جديدة وسماء جديدة كما جاء في سفر الرّؤيا.
ونحن ككنيسة محلّيّة، نحن عائلة واحدة نحتضن كلّ الأشخاص ونستقبلهم كأخوات وأخوة من دون النّظر إلى انتماءاتهم الدّينيّة والعرقيّة. عندما ذهبنا إلى الموصل للصّلاة عن راحة  أنفس ضحايا العبّارة، وتقديم مساعدات  لذويهم، سئلنا هل كان بين المتوفيّن مسيحيّون؟ قلنا  نحن لم نأت لأنّ فيهم مسيحيّين، بل لأنّنا نؤمن أنّ هؤلاء هم أهلنا وأخوتنا، وهم عراقيّون، ويدفعنا إيماننا بالله إلى الالتزام بخدمتهم بسخاء ، من دون تمييز.

أخواتي، أخوتي،
دعونا نستفيد من معاني  هذا العيد العميقة لتعميق اُخوَّتنا، وتوطيد وحدتنا وترسيخ  مبادئ المواطنة الكاملة والعيش المشترك، ولنعدّ لنا مستقبلًا أفضل ممّا نحن عليه،  وإلّا سنفقد وستفقد المنطقة تنوّعها وإرثها الحضاريّ والثّقافيّ والدّينيّ، الأمر الّذي لا نقبله..
لنصلّ من أجل السّلام والاستقرار والوئام في بلدنا والمنطقة، ولنصلّ من أجل أن تثمر جهود الحكومة الجديدة  ثمارًا خيّرة لمستقبل العراقييّن.
إليكم جميعًا أيّها الأحبّاء تهاني وتمنّياتي بعيد القيامة المجيد، بنعمة الرّبّ وبالسّلام والاستقرار، والصّحة والنّجاح والفرح."