العراق
06 كانون الأول 2022, 14:20

ساكو: للمكرّسة كاريزما وتأثير في الجماعة الدّينيّة والمجتمع

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة عيد العذراء مريم المحبول بها واستعدادًا لعيد الميلاد، ألقى بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو إرشادًا على مسامع راهبات بنات مريم الكلدانيّات، تمحورت الحلقة الأولى منه حول كاريزما المكرّسة وتأثيرها في الجماعة الدّينيّة والمجتمع، وجاء فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"مقدّمة

بهذه المناسبة أدعو المكرَّسات إلى التّأمّل الفرديّ والجماعيّ بأهمّيّة التّكريس، كدعوة خاصّة، ومشروع حياة بأكملها، وعيشِه في واقع الكنيسة والمجتمع الحاليّ، من خلال السّعي للتّأوين والتّجديد والنّضوج والنّموّ من أجل شهادة صادقة للإنجيل وسط المتغيّرات المتسارعة في عالمنا.

عالم اليوم يختلف عن العالم الّذي ولدنا فيه. عالم اليوم غير مستقرّ وفاقدُ التّوازن. عالم اليوم قد تغيّر، ومجتمع اليوم تغيّر، والنّاس تغيّروا، وكنيسة اليوم تغيّرت، رغم محاولة المتهلوسين المنادين بالحفاظ على التّقليد القديم، لأنّهم غير واقعيّين وخارج الزّمن. لذا نحن أمام تحدٍّ كبير في مواجهة التّغييرات الذّهنيّة والثّقافيّة، ولامبالاة معاصرينا بالقيم الإنسانيّة والرّوحيّة، الّتي ترى ألّا قيمة للتّكريس البتوليّ.

علينا أن نعترف بهذا التّغيير، وأن نُقرّ بأنّ العديد من المفاهيم الدّينيّة تطوّرت. الأمر يختلف اليوم: ما كنّا نعِدّه حقيقة وأحكامًا ثابتة بات غير مطلق إلى هذه الدّرجة. ما لُقِّنّا إيّاه ونحن صغار في التّعليم المسيحيّ يختلف عمّا نعتقده اليوم. وجود الله ليس موضوع براهين فلسفيّة، وإنّما هو موضوع إيمان وشعور بقربه منّا. هذا التّغيير يحفّزنا لأخذه على مَحمَل الجَدّ في حياتنا المكرَّسة ورسالتنا التّربويّة والرّوحيّة والرّعويّة، ونتأقلم بموجبه مع الواقع دون أن نضيع الجوهر.

المكرَّسات بحاجة إلى تنشئة جديدة ومستدامة للخروج من "الطّفولة" إلى النُّضج.

هذه التّنشئة ضروريّة للخروج من الطّفولة إلى النّضج حول ماذا يريد الله منّهن، ذلك عِبر القيام بتحليل المعلومات الّتي تستقبلها حواسهم بموضوعيّة، وغَربَلَتِها، وأخذ السّليم منها. هذا الوعي مهمّ جدًّا للقيام باختيارات صحيحة، تعبّر هذه القدرة عن حالة النّضوج والمسؤوليّة، والثّقة بالنّفس.

السّؤال المطروح على المكرَّسات هو: كيف الخروج من هذا الكَمّ المتوارَث للعبور بالإيمان إلى ثقافة اليوم؟ أعتقد أنّ دعوة البابا فرنسيس إلى السّينوداليّة عام 2023 تهدف إلى التّجديد الدّاخليّ للكنيسة ومؤسّساتها.

أوّلاً: للمكرّسة كاريزما وتأثير في الجماعة الدّينيّة والمجتمع

كلامي هو شخصيّ، وهو لي لأنّي مكرّس أيضًا، وليس بحثًا يُحيطُ بجميع جوانب الموضوع.  

تحتلّ المرأة المكرَّسة والعلمانيّة مكانة مهمّة في المجتمع وفي الكنيسة. لها مهاراتها وإبداعاتها الثّقافيّة والفنّيّة والإداريّة، وقد تبوّأت مناصب قياديّة ورئاسيّة، ولها مكانة الشّرف في البروتوكولات .Ladies first سؤالي هو: هل نبقى نحن في الكنيسة والدّير نتمسّك بالموروث التّقليديّ المتحيّز الّذي يُصنّف النّاس بحسب جنسهم والّذي يتقاطع مع إيماننا المسيحيّ والكرامة البشريّة، ويحرمنا من مواهب النّساء اللّواتي يشكّلنا نصف الجنس البشريّ، ودورهم وصوتهم النّبويّ؟

المرأة في الكتاب المقدّس

العهد القديم

يستعمل سِفر التّكوين، (فصل 1 و2) أسلوبَ الاستعارة بروعة أدبيّة فريدة. وتُقدّم رواية الخلق، صورةً لكيف ينبغي أن تكون علاقة الإنسان (ذكرًا وأنثى) مع الله، ومع ذاته، ومع البيئة والمجتمع، وتُبرز الدّور البنّاء الّذي يتعيّن على كلّ واحد القيام به، وممارسة سلطته بإنسانيّة ولطف.

هذه القصص خياليّة، كما يشير المتخصّصون في الكتاب المقدّس، لذلك تتطلًب مزيدًا من التّمييز العلميّ والرّوحيّ الّذي يُنضج الإيمان. هذا التّمييز يساعد على كشف المعنى والقيمة التّعليميّة لهذه النّصوص بكونها "وحيٌ من الله". وقد ركّز اللّاهوتيّون عِبر الزّمن على رمزيّة هذه النّصوص الّتي تخدم الإيمان.

هذه النّصوص ليست لوحة جامدة، بل أنّها لوحة متحرّكة، وكلمات مدهشة جاءت في ثقافيّة بشريّة تصعّب قراءتها بلغة زماننا، لذا علينا إعادة قراءتها في جوٍّ من الإيمان والثّقة، والصّلاة والتّأمّل، والإدراك أنّ كلماتنا البشريّة لا يمكنها استنفاذ سرَّ الله.

ماذا تريد أن تؤكّد قصّة الخلق؟

يتكلّم الفصل الأوّل عن مكانة الإنسان في تصميم الله، وفُرادتِه، وقيمتِه، وانسجامِه، ووحدته، بشكل يختلف عن أسلوب خلق الكائنات الأخرى.

يظهر الكتاب المقدّس أنّ أصل الإنسان ذكرًا واُنثى يعود إلى الله الخالق، ولا يبحث عن تقديم ثوابت علميّة وتاريخيّة مؤكّدة عن الخلق.

الغاية من هذه القصّة هي التّأكيد على مساواة المرأة بالرّجل، وإبراز كرامتها كإنسانة كاملة، وإظهار قابليّاتها الإبداعيّة، كشريكة وأم ومربّية. على هذا الأساس ترفض الرّسالة إلى غلاطية أن يكون هناك إنسان فوقيّ وآخر دونيّ لأيّة اعتبارات كانت: "فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (3/28).

كما تُشدّد قصّة الخلق على احترام التّنوّع، وقبول إختلاف الجنس والمواهب، وتدعو إلى التّعاون المتناغم من أجل الخير العامّ. ويرفض الكتاب المقدّس بالتّالي استبعاد أحد على أساس الجِندَر. ولا توجد أيّ عبارات تنتهك كرامتها كناقصة العقل والدّين، وعورة، أو بؤرة شرّ كما وصفها بعض النُّسّاك بأبشع العبارات…

الجنس قيمة كبيرة

الكتاب المقدّس لا يجعل الجنس قيمة طبيعيّة عظيمة، وليست خبيثة. يرينا المرأة في عزّ بهائها عندما تُحبّ وتعطي الحياة في شركة روحيّة. لنقرأ سفر نشيد الأناشيد: "مَن هذه المُشرِقَةُ كالصّبْح، الجَميلَةُ كالقَمَر، المُخْتارةُ كالشَّمْس، المَرهوبةُ كصُفوفٍ تَحتَ الرَّايات" (5/ 10).

المرأة شريكة في أعظم حَدَث حَصل للبشريّة بعد الخلق وهو ميلاد مخلّص العالم منها. ماذا أكثر؟ ولهذا فالمكرّسة تضحّي بطبيعتها من أجل شيء أسمى تسمّيه الرّوحانيّة المسيحيّة بـ"فوق الطّبيعة". المكرّسات يملكن قلوبًا نقيّة، وُهنَّ أكثر النّاس عطاءً، انطلاقًا من واقع إدراكهنَّ أنّ قلوبهن مسكن لله، ومغارة لاستقبال الإخوة. إنّهنّ حقًّا علامة نبويّة مضيئة خصوصًا في مجتمعاتنا المنهمكة في المادّة والاستهلاك. من دون أن يكونَ لها بُعد آخر.

الرّجل والمرأة ليسا ضدَّين متخاصمين، بل يتكاملان، ويقفان وجهًا لوجه، ليسند كلٌّ منهما الآخر مدى الحياة، بانسجام وروح المسؤوليّة، وإشعاع.

يُسَمّي الكتاب المقدّس الرّجل والمرأة إنسان وإنسانة: ايش وايشا بالعبريّة (تكوين 1/ 27 -31) وبالسّريانيّة ܐܢܫ ܐܢܫܬܐ. ويُشَبِّه الله بالخزّاف. ولفظةُ آدم لم تكن اسم علم في البداية، بل تعني أنّه من التراب (آداما)، حتّى يدرك حدوده! أمّا الإنسانة فيُسميها حَوّاء، أم الأحياء (الحياة)، واسمها أرقى من التّراب. ثمّ يأخذ الرّبّ الإله الإنسان (ذكرًا وأنثى)، ويضعه في جنّة عدن، ليفلَحها ويحرسها ويحوّل البيئة إلى جنّة تمامًا، لكن ماذا فعل الإنسان، اتَّهم الرّجل المرأة بالخيانة والأخ قتل أخاه…

الصّورة والمثال

خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثى) على صورته ومثاله ((تكوين 1/ 26-27) ليكون معاونًا له في مواصلة العمل الّذي بدأه على الأرض، أيّ ليشاركه في الخلق، بعقله وحكمته، وبخاصّة في إنجاب الأولاد، وتربيتهم ليصيروا على صورة الله.

أمّا المِثال فهو على صعيد "الرّوحانيّة" أيّ في مسعى الإنسان المستمرّ للتّحلّي بصفاته. المِثال قوّة ناشطة في داخله للنّموّ والارتقاء. يذكر نرساي الملفان (+502) أنّ الصّورة ثابتةُ، بينما المثالُ متحرّك، بسبب غرائز الإنسان، أيّ "العبوديّة الدّاخليّة" الّتي تتآكله مثل البرَص، لكنّه يقدر أن يستعيدَه إن تاب، لأنّ الله محبّة ورحمة (مَثَل الابن الشّاطر، لوقا فصل 15).

نصُّ التّكوين، نصٌ مؤسّسٌ للإيمان، فمع الله الّذي لا جنس له، تغدو البشريّة كلّها مشروع خلق، وصيرورة على صورة الله ومثاله. هذا هو الأمل.

يذكر لنا الكتاب المقدّس نساء عِصاميّات، بطلات، حقّقنَ هذا المشروع كدَبّورة القاضية، واستير ويهوديت وراعوث ولكلٍّ من هؤلاء الثّلاث سِفرٌ في الكتاب المقدّس! ولا ننسى حنّة "النّبيّة" في تقدمة يسوع إلى الهيكل.

العهد الجديد

مع يسوع يزداد التّأكيد على عدم وجود إنسان من درجة اُولى وآخر من درجة ثانية. رسالته موجّهة إلى الرّجال والنّساء معًا، فالمرأة كالرّجل مُفتداة بدمِه الثّمين. إنّها ليست أقلّ من الرّجل إنسانيّةً وفكرًا، ومعرفةً وقدرةً، وطموحًا وعطاءً.

من هذا المنطلق نلاحظ حضورًا نسويًّا حول يسوع منذ بداية كرازته وحتّى موته على الصّليب (لوقا 8/ 1-3). هذا الحضور يشكّل جانبًا رائعًا من حياته وتعليمه… أذكر هنا المريمات، ومرتا والسّامريّة والمجدليّة اللّواتي كنّا أكثر وفاءً من تلاميذه... حضورٌ يُلغي كلَّ فصل فئويّ بين البشر على أساس الجِندَر. أتمنّى أن يكون هذا التّعبير أكثر وضوحًا في تعامل الكنيسة وخطاباتها وتعاليمها !

يعتبر العهد الجديد المسيح آدم (الإنسان الجديد) صورة الله غير المنظور، وبكر الخليقة كلِّها (قولسي 1/ 15، 2 قورنثية 4/ 4)، والطّريق (المثال) الّذي يقود إلى الله: "أنا الطّريق والحقّ والحياة" (يوحنّا 14/ 6). كما يَعتبِر آباء الكنيسة مريم العذراء، حوّاء الجديدة (مار أفرام)، الأُمّ الجديدة للخليقة الجديدة "هذه اُمّك، وهذا ابنك" (يوحنّا 19/ 26-27).

الله حاضرٌ فيها كما هو حاضرٌ في الرّجل. كلاهما يصلّيان معًا "صلاة الأبناء" الّتي علّمها المسيح. وعلى حدّ قول ترتليانس (+ 220) هي خلاصة الإنجيل. نحن سعداء بأن يكون الله أبونا وأن نكون بناته وأبناؤه. تقول الرّسالة إلى غلاطية: "فلَستَ بَعدُ عَبدًا بلِ ابنٌ، وإِذا كُنتَ إبنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه" (4/ 7). ولا يمكن أن ننمو ونتطوّر ونكبر من دون هذا الإيمان، وهذه الشّركة والشّراكة.

بهذه المناسبة أتوجّه بالشّكر إلى البابا فرنسيس الّذي فتح الباب أمام المرأة للمشاركة في حياة الكنيسة، وفي الدّوائر الرّومانيّة ليكنَّ رئيسات ومستشارات وخبيرات، خصوصًا أنَّ هناك لاهوتيّات ومتخصّصات في العلوم الدّينيّة والاجتماعيّة.

التّكريس يعمّق إنسانيّة المرأة

التّكريس لا يُلغي الاُنوثة، بل على العكس يعمّق إنسانيّة المرأة، ويرسّخها كقيمة مكمّلة في جوّ من الحبّ والسّموّ (فوق الطّبيعة)، وعلى المستوى الأفقيّ (الرّوحيّ) والإنسانيّ أيّ سلامة علاقتها مع الله ومع الإنسان. لا يوجد أمام المكرَّسة سوى طريق واحد: هو أن يتعمّق عندها الشّعور بالتّكريس وبالانتماء إلى ديرِها، الّذي هو عائلتها. ومثلما يترك الرّجل كلّ شيء ويتبع زوجته، هكذا على الرّاهبة أن تتركُ بيتها وأهلها، وتضع المسيح في مركز حياتها اليوميّة! هذا التّكريس ليس هروبًا أو تهميشًا، بل قيمة وقوّة، إذ يمنحها حضور الله فيها وفي الجماعة الّتي تعيش فيها كعائلة، سلامًا أقوى من المِحن.

ما قاله الله لإبراهيم يقوله لنا اليوم: "سِر أمامي، من دون عيب – كاملاً" (التّكوين 17/ 1)، أيّ أن نكون متيقّظين ومنتبهين وليس غافلين أو مشتّتين بأمور كثيرة، حينها يكون تكريسنا شكليًّا! الله لن يتخلّى عنّا لأنّنا تحت حمايته وخلاصه: "أنت الضّامن لنصيبي" (مزمور 16/ 5). و"يا رَبِّ طُرقَكَ عَرِّفْني وسُبُلَكَ علِّمْني إلى حَقِّكَ اْهدنِي وعَلِّمْني فانَّكَ أنتَ إِلهُ خَلاصي”" (مزمور 25/ 4-5).

هنا أشير إلى أهمّيّة المكرَّسة الواعية والمطيعة والصّادقة والمتفانية والجريئة. لقد تمكنَت مكرَّسات عديدات من صنع أمور عظيمة بكفاءة وبراعة مثل القدّيسة كاترينا السّيانيّة (+1380) والّتي بحَدَسِها النّبويّ أعادت البابا من افينيون بفرنسا إلى كرسيّه بروما، وتريزيا الكبيرة وتريزيا الطّفل يسوع اللّتين تمّ إعلانهما معلّمتَي (ملفانتي) الكنيسة الجامعة، والاُمّ تيريزا- كلكوتا، والأخت مادلين للأخوات الصّغيرات وأخريات. وفي تقليدنا الكنسيّ الكلدانيّ الرّوحانيّة المكرَّسة شيرين من القرن السّابع والّتي كانت مرشدة للرّوحانيّ الشّهير الأسقف سهدونا الّذي ألّف كتاب طريق الكمال. كما لأديرُكنَّ أشخاص ومواقف وأحداث وعلاقات وخبرات من الرّوحيّة والصّداقة والفرح لا تُنسى، عليكنّ التّواصل معها.

عندما يكون لديكنَّ هذا الوعي ستملأكنّ حياة جديدة تدريجيًّا، وتدفعكنَّ نحو إنجازات جديدة!!

حذاري من البحث عن الأدوار والإنجازات كغاية بحدّ ذاتها، وبشيء من الهلوَسة، ومن دون العودة إلى حضور الرّبّ. هذا انزلاق خطر يخلق حالة من الانكماش والانغلاق والكآبة واليأس. حصّنكنّ الله منها".