ساكو يضيء في روما على التزام المسيحيّين الشّرقيّين برسالتهم في نهضة بلدانهم
وفي هذه الكلمة قال ساكو بحسب ما نشر إعلام البطريركيّة:
"لقد حصَلتْ عِبْرَ التّاريخ توتُّرات واتّهامات ومهاترات غير مُجدِية بين المسيحيّين والمسلمين واليهود، لكن العلاقة لا تُبنى على الماضي، بل علينا أن نتعلّم منه لنبني مستقبلًا أفضل برؤية جديدة تُمَهِّد لعلاقة من التّعاون والمؤازرة تعزّز الصّمود والتّكاتف الوطنيّ، بعيدًا عن نزعة التّسلُّط والتّطرُّف. اليوم ليس لنا مستقبل إلّا عندما نعيش معًا بوئام ونعمل كشركاء في الإنسانيّة والوطن من أجل إيجاد حلول مستدامة عِبر الحوار والتّفاهم. علينا أن نؤكّد بجرأة وصراحة، على المشترَك بيننا، ونعترف بالمختلَف عليه بصدق، على قاعدة: إنّ الله خلقَنا مختلفين لنتحابَب ونتعاون. وهو يَبسط كنَفَ محبّته ورحمته على الجميع.
الدّولة كيَان معنويّ محايد، تهتمّ بالشّأن العامّ، والمؤسّسات والخدمات وتحقيق العدالة وإحتضان الجميع وحمايتهم، وضمان عيش كريم لهم، بما يبعث الطّمأنينة في نفوسهم.
الدّين للأفراد، "شأنٌ بيني وبين ربّي".للدّين رسالة روحيّة وقيَم أخلاقيّة ثابتة لإصلاح ذات الإنسان والحثّ على التّسامح وفعل الخير وتجنُّب التّطرُّف. اليوم، باتَ من الأهمّيّة بمكان، الخروج من عقليّة دين ودولة. الدّين لا يبني دولة. الدّين يتدخّل عندما تضطرب العدالة والشّأن العامّ كما يفعل البابوات والمرجعيّات المسلمة."
وتابع ساكو متوقّفًا عند دور المسيحيّين الشّرقيّين، وقال:
"ليس من باب الصّدفة أن يعيشَ المسيحيّون اليوم كأقلّيّة في بلدانهم وسط غالبيّة مُسلمة، لا يمكن اعتبارها "أغلبية ساحقة" بل أغلبيّة مَدعوّة لتكون منفتحة وحاضِنة.
اليوم بالرّغم من انحسار عددنا بسبب خطّة مبرمجة لتهميشنا، لا نزال نعدّ أنفسنا جزءًا أصيلًا مهمًّا من النّسيج التّاريخيّ الاجتماعيّ والثّقافيّ لبلداننا، ونحمل رسالة مَحبّة وخير وسلام أساسيّة. ونؤمن بأنّ لنا دعوة للشّهادة لشيء مختلف، ودورًا مهمًّا في الحوار والتّغيير والتّأوين، وترسيخ قيَم الاخوّة والعيش المشترك. وبكوننا نشترك مع الغالبيّة المسلمة في نفس الأرض والتّاريخ والمصير واللّغة، ونعرف الإسلام أكثر من غيرنا، جعلتنا هذه الخبرة أكثر تأهيلًا للحوار والمساعدة، لكنّنا نحتاج إلى الدّعم المعنويّ والمرافقة.
هذا ما أدركه البابا فرنسيس وشيخ الأزهر من خلال إصدار وثيقة الأخوّة الإنسانيّة في أبو ظبي في الرّابع من فبراير/ شباط عام 2019. كما أشيرُ إلى لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الشّيعيّ آية الله العظمى السّيّد علي السّيستانيّ في جوٍّ أخَويّ في منزله بالنّجف الأشرف صباح 6 آذار 2021، عندما قال سماحته عبارة تنمُّ عن إنسانيّة وروحيّةنقيّة: "نحن جزءٌ منكم وأنتُم جزءٌ منّا.. "أليست هذه وثيقة "فتوى" أخرى بالرّغم من قِصرها.
ورسالة البابا لاون الرّابع عشر الموجّهة إليَّ في 14 تمّوز 2025 والّتي تضمّنت تشجيعًا كبيرًا لنا: "أشجّعكم على أن تبقوا ثابتين راسخين في أرضكم. وتحافظوا على جذوركم وتضعوا ثقتكم بالله الّذي لا يخيّب آمالنا والّذي يسندنا دائمًا بنعمته."
هذه الرّسائل تأكيد على أنّ وجودنا في هذه الأرض ليس مجرّد حضور جغرافيّ، بل هو امتداد للرّسالة والتّاريخٍ والحضارةٍ، الّتي شاركنا في صنعها. وتشجّعنا نحن المسيحيّين الشّرقيّين لنلعبدورنا، إلى جانب المسلمين وأتباع الدّيانات الأخرى والكثير من ذوي الإرادة الطّيّبة، في تكثيف العمل لبناء نموذج متناغم للتّنوّع والعيش المشترك الّذي لا يُبنى بالكراهيّة والقوّة، بل بالتّسامح والمحبّة والانفتاح واحترام التّنوّع الإنسانيّ، والإيمان بأنّ الحوار بين الأديان والثّقافات هو أساس متين لتحقيق السّلام وبناء مستقبل أفضل."
وحدّد ساكو في كلمته بعض محاور العمل الضّروريّة، وهي:
"1. أهمّيّة اعتماد الحوار، بين الدّيانات والثّقافات كأداة أساسيّة للانفتاح والتّفاهم، والتّصدّي لخطابات التّطرّف والكراهيّة، والحدّ من التّوتّر، وإشاعة الخطابات الّتي تجمع وتُعزّز ثقافة احترام الكرامة الإنسانيّة، وصون الاستقرار، لاسيّما ونحن نقترب من عام الاحتفالات بالذّكرى المئويّة الثّامنة لوفاة قدّيس أسيزي في الثّالث من تشرين الأوّل 1226، وهو رجل الحوار والسّلام. هذا الحوار يجب أن ينطلق من المسائل ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك التّحدّيات العديدة الّتي تواجه المجتمع والسّعي لإقامة علاقات إنسانيّة صحيحة مع الجميع والمحافظة على كرامتهم وترسيخ العيش المشترك المتماسك والتّكاتف الاجتماعيّ. في العراق مثلًا، تمكنّا بالتّعاون مع المرجعيّات المسلمة من تفكيك خطاب الكراهيّة الّذي كان قويًّا في السّابق.
2. الشّرق الأوسط بحاجة إلى ثقافة معاصرة، غير خاضعة للعواطف والوهم والعقليّة الطّائفيّة والعشائريّة واستعراض القوّة الّتي اعتدنا عليها. الإنفتاح على العالم، ضرورة وجوديّة، فالشّعوب الّتي تنغلق على نفسها لا تتقدّم. الإنفتاح يبني جسور الشّراكة والتّعاون ويزهر. نحن بحاجة إلى الإصغاء والحوار، إلى ثقافة أكثر عقلانيّة وواقعيّة تهتمّ بالمؤسّسات الخدميّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والقانونيّة على غرار دول العالم المتطوّرة.
3. إقامة دولة مدنيّة، مبنيّة على أساس المواطنة والمساواة بين كافّة الشّركاء في الوطن، وليس على الدّين أو الطّائفة أو الجندر (الجنس: الذّكوريّة والأنثويّة).الكلّ متساوون في الحقوق والواجبات بعيدًا عن منطق الأغلبيّة والأقلّيّة. دولة تخدم المواطنين لا الأحزاب ولا الميليشيات. النّظام المدنيّ ليس بالضّرورة ضدّ الدّيانة.
4.إعداد دستور مدنيّ، نهجه المواطَنة المتساوية، والحرّيّة الدّينيّة لجميع مكوّنات المجتمع، ودعم حقّهم في المشاركة الكاملة في الحياة العامّة بضمانات أمنيّة. قوّة البلد تتجسّد في وحدته وحماية دستوره وإسناد مواطنيه.
5. العدالة، هي ضمير البشريّة جمعاء، العدالة لا تتجزّأ، العدالة تساوي بين الجميع من دون انحياز. العدالة هي وحدها القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل والحقيقيّ والدّائم خصوصًا في الشّرق الأوسط."
