العراق
19 كانون الأول 2023, 12:50

صدور رسالة الميلاد للبطريرك ساكو، ومضمونها؟

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو إلى الأساقفة، والكهنة، والرّهبان والرّاهبات، والمكرّسين والمكرّسات، وكافّة المؤمنين الكلدان في العالم، رسالة لمناسبة عيد الميلاد المجيد والعام الجديد، كتب فيه بحسب إعلام البطريركيّة:

"بمناسبة عيد الميلاد المجيد، والعام الجديد 2024، أتقدّم إلى كلِّ واحدٍ وواحدة منكم، بتهانيّ الأخويّة، وتمنّياتي بالنّعمة والصّحّة والسّلام والفرح.

ونحن إذ نستعدّ لعيد ميلاد المسيح، ضروريٌّ أن نفكّرَ بشكل جادّ بايمانِنا بالمسيح، وأن نجدّد التزامَنا به بوضوح، في عالمٍ لا يُبالي بالقيم الإنسانيّة والرّوحيّة، ويستسلم بأنانيّة للمادّيّات والشّهوات، عالم بدأ يعتمد أكثر فأكثر على الذّكاء الاصطناعيّ من دون تقييم مخاطره على البشريّة، عالمٌ يختلف تمامًا عن السّابق؛ عالم أنظمته السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة غير مستقرّة، عالمٌ يعيش حروبًا في أوكرانيا والأراضي المقدّسة، وصراعاتٍ هنا وهناك، بينما النّاس المساكين ينتظرون إحلال السّلام الّذي أعلنه الملائكة ليلة الميلاد "وعلى الأرض السّلام" (لوقا 2/ 14) وما زالوا يفتقدونه!

الكنيسة: على الكنيسة الجامعة، وكنيستنا الكلدانيّة، أن تمارسَ رسالتها بشجاعة ومن دون خوف، وتبشّر برسالة المسيح، رسول السّلام والأخوَّة والمحبّة، وألّا تتوقّف عن المطالبة بحقوق النّاس وحرّيّتهم وكرامتهم، وإحقاق العدالة والمساواة، على أساس المواطنة الكاملة.

من هو المسيح بالنّسبة لنا وما الجديد الّذي جلبه؟

نحمل أحيانًا كثيرة أفكارًا خاطئة عن المسيح، أفكارًا خياليّة غير واقعيّة، ولا تتماشى مع الكتاب المقدّس. ونتعامل معه كشخص مجرّد، بدل أم يكونَ شخصًا حقيقيًّا. الكريستولوجيا (لاهوت المسيح) ليست حزمة من التّنظيرات والتّجريدات.

في ظلّ الظّروف الّتي نعيشها في العراق والأراضي المقدّسة ولبنان وسوريا، يبدو أنّ دور المسيحيّين الرّياديّ في مدّ الجسور مع بعضهم البعض، ومع غيرهم تراجع، لذا لم يعودوا قادرين على التّأثير، فتوجَّهوا إلى الهجرة.

نحن المسيحيّين المشرقيّين نحتاج أن يكون لنا وعيٌّ كاملٌ بإيماننا، ومعرفة وافية به بعيدًا عن المعلومات "المُعَلًّبَة" الّتي ألِفناها، حتّى يظلّ قلب المسيح نابضًا فينا، فنبثّ الرّجاء في القلوب والانتعاش الإنسانيّ والأخويّ والرّوحيّ في مجتمعاتنا.

الحقيقة هي عند من يَعيشُها بصدق وينقلها بأمانة. يجب أن نعرف من هو المسيح بالنّسبة لنا وما الجديد الّذي أتى به. هذا هو السّؤال الجوهريّ الّذي طرحه يسوع نفسُه على التّلاميذ. وجاء جواب بطرس: "أنت المسيح، ابن الله الحيّ" (متّى 16/ 13-14). هذا الإيمان يبيّن من نحن وماذا ينبغي أن نكون.

في سينودس الأساقفة عن السّينوداليّة (4-29 تشرين الأوّل 2023 بروما)، طلبتُ في مداخلتي المقتضبة أن يبحث آباء السّينودس عن لغة جديدة، ومفردات مختارة ومفهومة لتقديم الإيمان المسيحيّ، للنّاس بحسب ثقافتهم الحاليّة، لأنّ العقليّة تغيَّرت، والثّقافة اختلفت عن الماضي.

يكشف الإنجيل طبيعة إنسانيّة يسوع، وبنوّته الإلهيّة وكرامته ورسالته الخلاصيّة. المعروف عند مفسّري الكتاب المقدّس أنّ الكُتَّاب إستعملوا أجناسًا أدبيّة معروفة Formgeschichte لإيصال الرّسالة– المعنى، لذلك علينا ان نقرأ النّصوص المقدَّسة بتمعّن، ونبحث عن المعاني ما وراء الحروف لننمو معها.

ولد المسيح من مريم الطّاهرة، الّتي قمًّطته وأرضعته، وربَّته. بكى وصرخ، وأكل وشرب ونام ولعب مع أقرانه. وعندما كبر اشتغل وتعب. وهذا لا ينتقص من عظمته.

كان ليسوع أصدقاء وصديقات، وعائلات عزيزة على قلبه مثل عائلة لعازر وأختاه مريم ومرتا، وشارك مع مريم أمّه، ومار يوسف في عرس صديقٍ بقانا الجليل (يوحنّا 2/ 1-2)، وإلّا ما معنى أنّه صار إنسانًا كاملاّ، وأنّه "مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، ما عدا الخَطِيَّةٍ" (عبرانيّون 4/ 15).  

بدأ المسيح رسالته عندما بلغ عامه الثّلاثين. وشكَّل حولَه حلقةً من التّلاميذ والتّلميذات لمواصلة رسالته. وكانت التّنشئة في زمانه تستغرق ثلاث سنوات. الأقلّيّة قَبِلتهُ ورَفَضَتْهُ الأغلبيّة. في النّهاية صلبَه اليهود، لكن الله أقامه لأمانته. قيامته هي من مستوى آخر للوجود، وتشكّل رجاءنا في حياة كاملة ومفرحة.

المجتمع الّذي عاش فيه يسوع كان عبارة عن مزارعين ورعاة ورجال دين يهود متشدّدين، لم يكن لديهم وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ الّتي نملكها اليوم: مثل الكمبيوتر والموبايل والرّاديو والتّلفزيون والصّحف.

المسيح كان يملك ذاته. كان يملك الموهبة والنّعمة، وقلبًا نابضًا يُصلّي، وجسَدًا مرهفًا يُحبّ الجميع، ويخدمهم من دون استثناء: "ابن الإنسان جاء ليَخْدُم لا ليُخْدَم" (مرقس 10/ 45).

المسيح بشَّر بالله كأب، ينبوع المحبّة. كلُّ كلامِه دار حول حقيقةِ الله، وحبِّه الأبويّ. وسلَّطَ الضّوءَ على بنوَّتنا له، وأعتبارنا أخوات وإخوة في عائلة واحدة هي عائلة الله، في غاية الفرح والسّعادة. هذا هو السّرّ الجديد الموحى بيسوع المسيح، والّذي كلَّمنا عنه بشغف وجرأة، وجسَّده قولاً وعملاً.

علَّمنا أنّ الحبَّ يبقى أبدًا لأنّ الله محبّة، و"اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1 قورنثية 13/ 8). وهَبَنا "روحَهُ الإلهيّ"، شعلة حبِّه، لنكون على صورته ومثاله، أليس هو "البِكر"؟

كلمة الله هي شخص حيّ اسمه يسوع قبل أن يصبح/ تصبح كتابًا مقدَّسًا. لقد صار جسَدًا، وسكن بيننا. وجسَّد هذا التّعليم في ذاته، حتّى عندما كانت خدمته موجِعة بسبب مقاومة السّلطات له: السّياسيّون ورؤساء الكهنة والأغنياء.

المسيح هو كلمة الله، يتحدّث عنه، وباسمه بدون تكلُّف. وأعطى عاديّات حياته معنىً وروحًا وحبًّا مدهشًا.

الله في يسوع ويسوع في الله: "كما أنّك فيّ يا أبتِ، وأنا فيك، فليكونوا هم أيضًا فينا" (يوحنّا 17/ 21).

الله غير المنظور صار منظورًا في يسوع "من رآني رأى الآب" (يوحنّا 14/ 9). أليس هذا هو "التَجسُّد"؟

من هذه العلاقة الحميمة تنبع الرّوحانيّة والأخلاق وتستمرّ إلى النّهاية. هويّة المؤمن المسيحيّ متعلّقة بهويّة يسوع المسيح.

يسوع دعا إلى التّوبة– التّغيير– metanoi أيّ قبول "الحداثة- الملكوت". هذا التّعليم يجب أن يستنهضنا ويعطينا النّعمة والقوّة لنسير معه نحو القيامة.

إنطلاقًا من هذه الرّوحانيّة تكلَّم يسوع عن الصّلاة والمحبّة والغفران المتبادل وخدمة الآخرين بالكامل: "كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فبي فعلتموه" (متّى 25/ 40). أعطانا جسده في سرِّ القربان المقدّس لنتناوله، وليبقَ معنا، لنشعر جميعًا أنّنا أخوات وإخوة.

يقول البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني في رسالته العامّة الأولى "فادي الإنسان" Redemptor Hominis سنة 1979.

"لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون حبّ، لأنّه يبقى كائنًا غير مفهوم لنفسه؛ حياته لا معنى لها إذا لم ينكشف له الحبّ؛ إذا لم يجده؛ إذا لم يختبره بنفسه ويشارك فيه مشاركة حميميّة. ولهذا السّبب فإنّ المسيح الفادي "يكشف الإنسان لنفسه بالكامل"… هذا هو البعد الإنسانيّ لسرّ الفداء. في هذا البعد [الحبّ المضحّي] يجد الإنسان مرّة أخرى العظَمَة والكرامة والقيمة الّتي لإنسانيّته" رقم 10.

عمليًّا: الإيمان هو السّير على خطى المسيح بجذريّة

في وضعنا الحاليّ التّعبان نحتاج أكثر للإصغاء إلى المسيح "الإنجيل الحيّ"؛ لمعرفة صوت الله، والتّعلُّم منه، وتطبيقه بجذريّة، لنكون في الميلاد.

خلاصُنا يقوم على الاقتداء بالمسيح، ومثلما فاجأت قيامته الباهرة الجميع، هكذا سيُفاجئنا الله بحلٍّ جميلٍ لمشاكلنا وظروفنا الصّعبة. ألم يحلّ مشكلة النّسوة، زائرات قبره الحائرات: "مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ فوجدنَ الحجر قد دُحرج عن القبر وكان كبيرًا" (مرقس 16/ 3-5).

لنتَّكل عليه فكرًا وقلبًا. وليكن موقفنا ثابتًا وشجاعًا بالرّغم من أنّه متطلّب: "أستطيع كلَّ شيء بذاك الّذي يقوّيني" (فيلبّي 4/ 13) لكي اُحَوّل كلّ شيءٍ إلى نعمة.

الصّلاة كانت حياة يسوع، ينبغي أن ترافق حياتنا أيضًا، بكونها أوكسجين روحانيّتنا. لنسلّم له ذاتنا كما سلَّمها يسوع: "يا أبتاه في يديك أستودع نفسي" (لوقا 23/ 46).

كان يسوع يتلو صلوات قصيرة بسيطة ومؤثّرة مثلاً: "أَيُّهَا الآبُ، مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يوحنّا 17/ 1)، "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (متّى 46/ 27)، "لِتَكُنْ لَا مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَتُكَ" (لوقا 22/ 42). إبحث أنتَ أيضًا عن صلوات اُخرى في الإنجيل.

لنصلّي نحن أيضًا بنفس الثّقة: "لتكن مشيئتك كما في السّماء كذلك على الأرض" (متّى 6/ 10). ولنطلب المغفرة عن أخطائنا: "أغفر لنا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا" (متّى 6/ 12).

لا نَخَفْ، إنّ الله يقبلنا حتّى عندما نخطأ. إنّه يحبّنا ويستقبلنا ويدلّلنا كما استقبل ودللَّ الأب ابنه الشّاطر (الضّالّ) الّذي أنكره وأهدر ماله (لوقا فصل 15). لنتجاوب معه، إنّه عمّانوئيل (الله معنا)، أليس هذا وعده الأبديّ؟ ولنترك الأمور الأخرى فهو يفعل كلَّ شيء للخير.

عيد ميلاد مجيد، وكلّ عام وأنتم بخير.

إمنح يا ربّ السّلام والاستقرار للعراق والأراضي المقدسة والعالم."