لبنان
11 آب 2025, 07:55

عودة: يا ربّ نجّنا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين. وبعد الإنجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها:

"في المقطع الإنجيليّ الّذي سمعناه اليوم، نقف أمام مشهدٍ عجيبٍ تظهر فيه قوّة المسيح الإلهيّة، كما ننظر عمق خبرة الإيمان، حيث يمتحن قلب الإنسان أمام العاصفة، ويكشف له وجه المخلّص في لحظة الخوف والإضطراب. وضع التّلاميذ أمام الطّاعة عندما ألزمهم الرّبّ «أن يدخلوا السّفينة ويسبقوه إلى العبر». هو يعرف كلّ شيءٍ ويعلم أنّ العاصفة آتية، لكنّه أمرهم أن يركبوا السّفينة، لأنّ في العاصفة دربًا إلى المعرفة، وفي المخاطر الّتي تبدو كأنّها نهاية تعلن بداية جديدة. تركهم المسيح وصعد وحده إلى الجبل ليصلّي، في حوارٍ خفيٍّ مع الآب. الصّورة هنا مليئة بالدّلالات: فكما أنّ التّلاميذ في السّفينة وسط البحر، والموج يعصف بهم، والمسيح يبدو غائبًا عنهم، كذلك تكون خبرة الكنيسة أحيانًا، وحياة كلّ نفسٍ مؤمنةٍ. نصارع في بحر الحياة ظانّين أنّ الرّبّ بعيد، لكنّه في الحقيقة على الجبل يصلّي وينظر إلينا وعينه لا تغيب عنّا. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم: "إنّه يصلّي من أجلنا ليس لأنّه يحتاج إلى الصّلاة بل ليعلّمنا أن نلجأ إلى الله في الصّلاة عندما نجرّب".

كان التّلاميذ معذّبين في البحر وكانت الرّيح مضادّةً. إنّها صورة الكنيسة في العالم، تعبر بحر الزّمن، وتواجه رياح الإضطهادات وأمواج الشّكوك وغموض المصير. المسيح لا يتركها وحدها، بل يأتيها ماشيًا على المياه في الهجعة الرّابعة، أيّ في ساعةٍ متأخّرةٍ من اللّيل. تأخّر الرّبّ لا يعني غيابه، لأنّه يعرف الوقت الأنسب لخلاصنا. قد نظنّ أحيانًا أنّ الرّبّ يبطئ في القدوم، لكنّ القدّيس إيريناوس يقول: "الله لا يتأخّر، بل يهيّئ الإنسان ليستقبل نعمته في الوقت المناسب". المهمّ أن نثق بالرّبّ يسوع الذي قال لتلاميذه "ثقوا، أنا هو، لا تخافوا".

دهش التّلاميذ لرؤيتهم يسوع ماشيًا على المياه، ووقفوا أمام إعلان سلطانه الإلهيّ. البحر في الفكر العبريّ رمز للفوضى والشّرّ والقوى الغامضة المعادية للإنسان، والمسيح يمشي عليه كما يسير الإنسان على الأرض، معلنًا أنّه ربّ الخليقة، والسّيّد على جميع القوى، حتّى غير المنظورة، وهو يسود على كلّ ما يخيف الإنسان، كما يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ: "هو يمشي على البحر لأنّه خلقه، ولأنّ ما يخيفنا هو تحت سلطان محبّته".

خاف التّلاميذ وظنّوه خيالًا. حين نجهل ربّنا، ويتكلّم معنا في العاصفة، نحسب صوته غريبًا، ونظنّ حضوره وهمًا. لا يعرف الإنسان المسيح حقًّا إلّا إذا عبر الظّلمة واختبر الخوف وصرخ من الأعماق. بطرس المعروف باندفاعه قال للرّبّ: "إن كنت هو فمرني أن آتي إليك على المياه". إنّه طلب إيمانٍ وشجاعةٍ، لكنّه أيضًا طلب فيه شيء من التّحدّي. لم يوبّخه الرّبّ بل دعاه ليأتي، فدخل بطرس في اختبارٍ فريد. مشى على الماء ما دام نظره موجّهًا إلى المسيح، لكنه حين التفت إلى الرّيح خاف وبدأ يغرق. نحن أيضًا، إذا ثبّتنا أعيننا على الرّبّ نسير فوق المصاعب، وعندما ننظر إلى الأخطار وننسى حضوره نغرق في الهمّ واليأس. صرخة بطرس: "يا ربّ، نجّني» هي صلاة قصيرة من الأعماق، إذ أيقن ألّا خلاص له إلّا بالرّبّ. حالًا، مدّ الرّبّ يده وأمسك به ووبّخه بلطفٍ. لم يدن ضعفه، بل ذكّره بأنّ الشّكّ لا ينفع، وأنّ الإيمان وحده يشدّد الإنسان في وجه العاصفة. وما إن صعدا إلى السّفينة حتى سكنت الرّيح لأنّ الطّبيعة تهدأ في حضور الرّبّ والعاصفة تطيعه. السّفينة هنا رمز للكنيسة الّتي ما دامت ممتلئةً بحضور الرّبّ لا تقوى عليها الرّياح مهما اشتدّت.

لمّا رأى التّلاميذ ذلك سجدوا معترفين بألوهة المسيح. لم يكن ذلك تعبيرًا عن الإعجاب، بل كان إعلان إيمانٍ حقيقيّ. معرفة المسيح لا تأتي من الكلام، بل من عبور المحن واختبار الخلاص. يقول القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ: «لا يعرف الله بالكلام، بل بالسّلوك في الطّريق الّذي يقود إلى النّور عبر ظلمة التّجربة".

وإختتم عودة: "يلخّص إنجيل اليوم خبرة الحياة المسيحيّة بكاملها، حيث طاعة الكلمة، والدّخول إلى سفينة الإيمان، ومواجهة العواصف، وطلب الحضور الإلهيّ، والغرق حين يتشتّت نظرنا، ثمّ النّجاة حين نصرخ من أعماقنا، وصولًا إلى ثبات السّفينة حين يدخلها الرّبّ. لذا، دعوتنا اليوم أن يرى كلّ منّا في نفسه بطرس، وألّا نخجل من ضعفنا، بل أن نصرخ: "يا ربّ، نجّنا". دعوتنا أن نثق بأنّ المسيح لا يتركنا وحدنا في البحر، بل يأتي إلينا حتّى ولو حسبناه متأخّرًا، ولو لم نعرف صوته وظننّاه خيالًا. إنّه يأتي ماشيًا فوق مياه مصائبنا، مادًّا يده، فيدخل سفينتنا ويسكّن الرّيح ويمنحنا السّلام. هذا ينطبق على حياتنا في وطننا. نشتّت أذهاننا بأمورٍ تغرقنا في أمواج الضياع، تسلم سفينة فمهما اشتدّت الصعاب وكثرت العراقيل، إن آمنّا أنّ هذا البلد بلدنا وأطعنا دستوره، وطبّقنا قوانينه، ووضعنا ثقتنا في دولتنا وسلّمناها أمرنا، وطلبنا منها الإمساك بالوضع بمسؤوليّةٍ وحزمٍ، ولم وطننا وننجو جميعنا من الغرق. ألا ألهم الرّبّ الإله حكّام هذا البلد وشعبه ليضعوا ثقتهم به ويعملوا بهدي كلمته فيخلصون. آمين".