لبنان
15 كانون الثاني 2024, 06:55

عوده: أصبحنا أحوج من أيّ وقت مضى لرئيس يتسلّم زمام الأمور ويقود مع حكومته لبنان بعيدًا من الحرب

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، وبعد الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"أحبّائي، تودّع كنيستنا المقدّسة اليوم عيد الظّهور الإلهيّ، لهذا شاءت أن يقرأ على مسامعنا مقطع من إنجيل متّى (4: 12-17) يخبرنا بعمل الرّبّ بعد معموديّته. هذا النّصّ الصّغير يأتي ضمن سياق أوسع، نرى فيه المسيح بعد معموديّته مجرّبًا في البرّيّة، ثمّ قاصدًا الجليل حيث حوّل الماء إلى خمر. وفي بداية مقطع إنجيل اليوم نسمع أنّ الرّبّ يسوع يغادر اليهوديّة منصرفًا إلى الجليل حيث كان اليهود قليليّ العدد، وهم من سبطي زبولّون ونفتاليم. هناك، كانت غالبيّة السّكّان من الفينيقيّين واليونانيّين والعرب، لذلك سمّيت المنطقة "جليل الأمم".  

عندما كان الشّعب الإسرائيليّ في السّبي ملأ الوثنيّون الجليل، ولاختلاط اليهود بهم أصبحوا أردياء، لذلك قيل عنهم "الشّعب الجالس في الظّلمة"، أيّ في ظلمة الجهل والخطيئة وانعدام الأمل بالخلاص. هذا الشّعب الجالس في الظّلمة وظلال الموت "أبصر نورًا عظيمًا"، هو المسيح القائل: "أنا قد جئت نورًا إلى العالم، حتّى كلّ من يؤمن بي لا يمكث في الظّلمة" (يو 12: 46).  

لقد ترك المسيح النّاصرة وذهب إلى كفرناحوم بعدما ألقي القبض على يوحنّا المعمدان، إشارةً إلى أنّ الشّعب الّذي لا يشاء الخلاص، ولا يقبل النّور الّذي يحمله الأنبياء مثل يوحنّا، والشّعب الّذي يرفض النّور الحقيقيّ، أيّ المسيح، يغادره النّور. لذلك، علينا أن نقبل المسيح في حياتنا المظلمة بالخطيئة، لكي يدخل ويطهّرنا، مخلّصًا إيّانا من خطايانا. هذا لا يحدث إلّا بملء حرّيّتنا، بطاعتنا لكلمة الرّبّ الواردة في الأسفار المقدّسة.  

في نهاية إنجيل اليوم يدعو المسيح إلى التّوبة قائلًا: "توبوا، فقد اقترب ملكوت السّماوات". هذه كانت دعوة المعمدان نفسها، لأنّ التّوبة هي المدخل الّذي يعبره المسيح إلى داخل نفوسنا، فنكون من ورثة ملكوت السّماوات.  

لقد أراد المسيح أن يذهب إلى كفرناحوم، حيث السّاحل وشاطئ البحر، لكي يختار تلاميذه، لأنّه متى غادر الأرض صاعدًا إلى السّماء، لا يريد ترك العالم في الظّلام، بلا نور يهديه إلى طريق الحقّ والخلاص، فيكون التّلاميذ مصابيح تنير دروب البشر نحو التّوبة، وتاليًا نحو ملكوت السّماوات.  

إسم "كفرناحوم" يعني "المعزّي"، وفي هذا دلالة إلى التّعزية الّتي سيقدّمها الرّبّ للبشر بواسطة الرّوح القدس المعزّي، الفاعل من خلال التّلاميذ وخلفائهم، وقد قال: "أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحقّ الّذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه، وأمّا أنتم فتعرفونه لأنّه ماكث معكم ويكون فيكم. لا أترككم يتامى" (يو 14: 16-28). فبما أنّ البشر لا يستطيعون رؤية الرّوح القدس، أصبح بإمكانهم أن يعاينوا ثماره عبر التّلاميذ ومن يتعلّم منهم كيفيّة السّلوك بحسب كلمة الرّبّ. لهذا، نسمع في نصّ رسالة اليوم: "لكلّ واحد منّا أعطيت النّعمة على مقدار موهبة المسيح". إنّ الرّوح القدس يعمل في كلّ منّا، ويمنحه موهبةً خاصّة، لذلك واجب كلّ إنسان أن يفعّل موهبته في سبيل خير الجسد كلّه، أي الكنيسة جمعاء.  

وبما أنّ الإنجيليّ متّى يكتب متوجّهًا إلى اليهود، كثيرًا ما يستخدم عبارة "ملكوت السّماوات" لأنّ اليهود استخدموا كلمة "السّماوات" بدلًا من "الله"، حتّى لا يستعملوا اسم الله على نحو غير ملائم أو بإفراط، وحتّى لا تعتاد الأذن على استخدام الاسم الإلهيّ، فيحافظون على الرّهبة والاحترام تجاه ساكن السّماء.  

"ملكوت السّماوات" يتعارض مع "مملكة الأرض"، إذ حينما يملك الله على شعبه في الأرض، يجعله يحيا في السّماوات، كما يقول الرّسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس: "وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السّماويّات في المسيح يسوع" (أف 2: 6)، كما يقول: "فإنّ سيرتنا نحن هي في السّماوات، الّتي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الرّبّ يسوع المسيح" (في 3: 20).  

توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات". بهذا كرز يسوع مخاطبًا الشّعب الجالس في الظّلمة. كم تشبه ظلمة الأيّام الّتي نعيشها تلك الظّلمة الّتي كان الشّعب قابعًا فيها، وكم نحن بحاجة إلى التّوبة الّتي نادى بها المسيح، إلى الرّجوع إلى النّفس والتّأمّل في كلّ الخطايا والجهالات الّتي نقترفها نحن البشر، ويقترفها في هذا البلد من في يدهم السّلطة، ومن لديهم القدرة على المبادرة لكنّهم غافلون عن واجبهم، أو سائرون في طرق معوجّة أوصلت البلد وشعبه إلى هذا الواقع الأليم.  

فبالإضافة إلى غياب الرّئيس وغياب حكومة كاملة الصّلاحيّات، نحن نعاني من فراغ في الإدارات والمؤسّسات، ومن صعوبات ناتجة عن تدهور القتصاد، ومن خطر الانزلاق إلى حرب يخشاها معظم اللّبنانيّين ويرفضونها لأنّها ستؤدّي إلى تدمير ما تبقّى من هذا البلد، والقضاء على أهله. وحولنا عالم لا مبال، يفتّش عن مصلحته، ولا يتحرّك لوقف جريمة ضدّ شعب يقتل بلا رحمة، وتدمّر بيوته ومعابده ومدارسه ومستشفياته، ويعيش في العراء بلا ماء أو طعام أو دواء. أمّا الأمم المتّحدة فعاجزة أمام هذه الفظائع. فإذا كانت غير قادرة في ظرف كهذا، فما الجدوى من وجودها إذًا؟  

في ظلّ هذه الأوضاع أصبحنا أحوج من أيّ وقت مضى لرئيس يتسلّم زمام الأمور، ويقود مع حكومته لبنان بعيدًا من الحرب وعرس الجنون المحيط بنا، يكون ناطقًا باسم لبنان ومفاوضًا عنه، رافعًا الصّوت من أجل حماية حدوده وصون سيادته وتأمين السّلام والاستقرار لشعبه.  

كذلك نأمل أن يعلو صوت الحكمة والدّبلوماسيّة على ضجيج المدافع، ويتمّ التّوصّل إلى وقف القتال وإيجاد حلّ عادل يضمن السّلام والاستقرار والعدالة لفلسطين والمنطقة كلّها، لأنّ الحرب لا تؤدّي إلّا إلى الموت والدّمار، أمّا السّلام فمن ثمار الرّوح القدس كما قال بولس الرّسول، وهو المعزّي الّذي يقود خطواتنا نحو التّوبة والعودة إلى المسيح كي نكون من تلاميذه، ونفعّل الوزنة المعطاة لنا تاركين الرّوح القدس يعمل فينا، حتّى متى بلغنا الملكوت السّماويّ لا نقف أمام العرش الإلهيّ مخذولين، آمين."