لبنان
11 تشرين الثاني 2019, 06:55

عوده إلى المسؤولين في لبنان: كيف تنامون والسّفينة تغرق؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القديس جاورجيوس- بيروت، ألقى خلاله عظة قال فيها:

"نقرأ في إنجيل اليوم عن ناموسي اقترب من الرّبّ يسوع لكي "يجرّبه". أراد النّاموسيّ أن يعرف الطّريق نحو الحياة الأبدية، مع أنّه هو نفسه، أيّ النّاموسيّ، كان يعرفها فعلاً، وهذا بدا واضحًا عندما سأله الرّبّ: "ماذا كتب في النّاموس؟ كيف تقرأ؟" فأجاب بثقة ساردًا ما جاء في الشّريعة: "أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ ذهنك وقريبك كنفسك".
المحبّة هي أساس المسيحيّة، وقد قال الرّسول يوحنّا: "الله محبّة" (1يو 4: 8)، كما شرح لنا الرّباط بين محبّة الله ومحبّة القريب قائلاً: "إذا قال أحد: إنّي أحبّ الله، وهو يبغض أخاه كان كاذبًا، لأنّ الّذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه" (1يو 4: 20). هذه المحبّة برهنها الرّبّ يسوع بالفعل عندما قال للنّاموسيّ: "بالصّواب أجبت"، لأنّه مع علمه بأنّ معلّم الشّريعة يجرّبه، لم يردّ الشّرّ بالشّرّ، بل مدحه على معرفته، لكنّه زاد عبارة: "إعمل ذلك فتحيا" كي يعلّمه أنّ الإيمان الحقيقيّ لا يكون بالكلام بل بممارسة أعمال المحبّة والرّحمة. هنا سأل النّاموسيّ: "ومن قريبي؟". قريب اليهوديّ هو ابن شعبه، وهو اليهوديّ فقط بحسب التّعاليم اليهوديّة، أمّا بقيّة النّاس فهم غرباء بالنّسبة إليه وكان يعتبرهم أنجاسًا.
يجيب الرّبّ يسوع على تساؤل النّاموسيّ، ضرب له مثلاً عن "إنسان" وقع بين أيدي قطّاع طرق ضربوه وسرقوه وتركوه بين حيّ وميت. هذه ليست المشكلة، إنّما المشكلة هي في أنّ الكاهن واللّاوي، اللّذين يعرف كلاهما النّاموس جيّدًا، كما أنّهما يخدمان هيكل الله، أيّ يجب أن تكون لديهما خبرة بأعمال المحبّة والرّحمة، لم يتوقّفا ليساعدا ذلك المسكين لئلّا يتنجّسا، كونهما ذاهبين إلى الهيكل ليخدما. لم يدركا أنّ محبّة الله تتجلّى في محبّة الإنسان، كائنًا من كان، وأنّ خدمة الله لا تكتمل إلّا من خلال خدمة المخلوق على صورته ومثاله. بينما السّامريّ، الغريب بالنّسبة لليهود، والخارج عن الدّين، طبق ما يطلبه الله منّا: لقد تعامل مع الجريح كإنسان محتاج إلى المحبّة، ومستحقّ الرّحمة، ولم يتوقّف عند حدود الوطن أو الدّين. بدا السّامريّ خبيرًا في أعمال الرّحمة، فهو يعلم كيف يضمّد الجراح، وكيف يطهّرها. بدا السّامريّ ذا ضمير حيّ، لا يأبه بلون الجريح الّذي أمامه ولا بانتمائه الدّينيّ أو الإثنيّ، رآه "إنسانًا". وقد كان بإمكانه أن يقف عند هذا الحدّ، لكن الضّمير المتّقد بالمحبّة لا يستطيع القيام بعمل منقوص، لذلك نجده يحمل الجريح على دابته ويأخذه إلى فندق ويدفع ثمن إقامته من دون أن يطلب شيئًا بالمقابل. لقد عمل السّامريّ بالمبدأ الّذي قاله الرّبّ يسوع: "ومن سخّرك أن تسير معه ميلاً واحدًا، فسر معه ميلين" (مت 5: 41). يرى آباء الكنيسة في السّامريّ صورة للمسيح الّذي يطبّب المرضى (بالخطيئة) ويعتني بجراحهم ويأخذهم إلى الفندق (الكنيسة) لكي يقدّمهم إلى الله الآب صحيحي الجسد والرّوح.
بعدما أنهى الرّبّ سرد المثل، سأل النّاموسيّ عمّن هو قريب الجريح، فأجاب النّاموسيّ: "من صنع إليه الرّحمة". ربما نجد وجهين في هذه الإجابة: أوّلاً، كناموسيّ يهودي، لا يزال متمسّكًا بعدم ذكر كلمة "سامري" على شفتيه لئلّا يتنجّس، ومن جهة ثانية، قد نشعر بأنّ هذا النّاموسيّ شعر بالخجل إذ أنّ اللّذين يعرفان النّاموس مثله لم يفعلا ما قام به ذاك الغريب النّجس. لا نعلم ما شعر به ذاك النّاموسيّ، ولا إذا أعجبه جواب الرّبّ يسوع، لأنّ النصّ ينتهي بحث الرّبّ لذاك المعلّم بقوله: "إمض فاصنع أنت أيضًا كذلك"، الأمر الّذي قد يأخذ الكثير من الوقت لكي يستطيع تطبيقه إذ لم يعتد سوى على التّنظير من دون فعل، غير أنّ المطلوب هو اقتران القول بالفعل، أي ّألّا تكون المحبّة والرّحمة مجرّد نظريّات وشعارات تطلق في الهواء. إن لم يقرن المؤمن إيمانه بالأعمال يكون إيمانه ناقصًا. ما يطلبه الرّبّ يسوع من تلاميذه ومنّا هو عمل الرّحمة الذي هو شرط أساسيّ لدخول ملكوت السّموات: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم" (لو 6: 36). الرّبّ لا يريد كلامًا بل أفعالاً. يقول: "أريد رحمة لا ذبيحة" (مت 9: 13). هذا الحنان يجعلني شبيهًا بالسّامريّ الصّالح، قريبًا من الشّخص الّذي تجمعني به الصّدف، ورحيمًا بمن يكون قد أساء إليّ".
لقد منحنا الرّبّ رحمته لنتعلّم، وسوف ندان بقدر الرّحمة الّتي نكون قد أظهرناها لشخص يسوع في وجه إخوته الصّغار، ولو على غير علم منّا. ألا نتذكّر ما قاله يوم الدّينونة: "كلّ مرّة عملتم هذا بواحد من إخوتي هؤلاء الصّغار، فلي عملتموه" (مت 25: 40).
لقد عمل الرّبّ يسوع، من خلال سرد هذا المثل، على أن يحرّك ضمير النّاموسيّ، والضّمير محرّك طبيعيّ غرسه فينا الله كي يبقينا يقظين وحسّاسين تجاه حزن إخوتنا ومصائبهم. فعندما نشعر مع إخوتنا، علينا أن نسرع إلى خدمتهم بكلّ ما أوتينا من قدرة، الأمر الّذي يشرحه لنا الرّسول يوحنّا قائلاً: "وإنّما عرفنا المحبّة بأنّ ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا. فعلينا نحن أيضًا أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا. من كانت له خيرات الدّنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه فكيف تقيم فيه محبّة الله؟ يا بني، لا تكن محبّتنا بالكلام ولا باللّسان بل بالعمل والحقّ (1يو 3: 16-18).
في ظلّ ما يحصل في بلدنا نسأل: هل بقي ضمير في هذا الوطن ومحبّة؟ الشّعب يصرخ ألمًا منذ ثلاثة أسابيع، هل من أذن صاغية لصراخ الشّعب؟ هل من ضمير يتحرّك لإعطاء هذا الشّعب أدنى حقوقه: العيش الكريم في وطن يحترم أبناءه ويحتضنهم ويصونهم ويعاملهم بالعدل والمساواة؟.
إلى المسؤولين في هذا الوطن أقول: يا إخوتي، أخاطب فيكم الأب وضمير الأب. أبناؤكم يتألّمون، يصرخون، يقفون على حافة اليأس ويعتبرون أنّ لا ذنب لهم سوى أنّهم وثقوا بطبقة حاكمة لم تعد تمثّلهم أو تلبّي طموحاتهم، لكي لا نقول خذلتهم. لقد سرقت أحلام اللّبنانيّين وصمتوا طويلاً قبل أن ينفجروا غضبًا لأنّه لم يعد بوسعهم أن يتحمّلوا المزيد.
الأب لا يهمل أبناءه ولا يصمّ أذنيه عن سماع طلباتهم، وهم لا يطلبون المستحيل. يريدون سلطة يثقون بها، يريدون مسؤولين يصلحون ما أفسده السّابقون. يريدون استعادة وطنهم وكرامتهم وخيراتهم. يريدون بيئة نظيفة وفرص عمل، يريدون وقف الهدر والفساد وتقاسم السّلطة، يريدون العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات. يريدون وطنًا يصغي فيه المسؤولون إلى هموم النّاس وأوجاعهم. لا يجوز أن يبقى المواطن يستعطي حقّه، ولا يمكن اختزال صوت الشّعب أو إلغاؤه. عندما تنعدم الثّقة بين الشّعب والسّلطة، التّغيير واجب، وهذا يحدث في معظم البلدان. فلم الانتظار؟ أليست سلطة الشّعب أقوى من كلّ السّلطات؟ السّلطة ليست ملكيّة خاصة. إنّها تكليف من الشّعب. لذلك من واجب الحاكم سماع صوت شعبه. لم نعد نملك ترف إضاعة الوقت، ولم يعد ممكنًا تجاهل النّاس واستغباؤهم. البلد يكاد يصل إلى قعر الهاوية. إرحموا أنفسكم إن لم ترحموا الشّعب. إذا انهار الوضع فسينهار على رؤوسنا جميعًا ولن ينجو أحد. ألا يستدعي الخطر المحدق بنا جميعًا أن يتخلّى الجميع عن أنانيّاتهم ومصالحهم وحصصهم من أجل إنقاذ ضروريّ وسريع؟ أليس من يفتح ثغرة في هذا الجدار السّميك؟ كيف تنامون والسّفينة تغرق؟ ألا تعذّبكم ضمائركم بسبب ما أوصلتم البلد إليه، وبسبب تقاعسكم عن التنازل من أجل إنقاذه؟ التراجع عن التعنّت ليس ضعفًا. التّنازل عن الأنانيّة وتقاسم السّلطة ليس عجزًا. الكبر يكمن في تقديم المصلحة العامّة على الخاصّة، والقوّة تكون في بذل الذّات من أجل الوطن، لأنّ حبّ الوطن أسمى من حبّ النفس. ماذا ننتظر لتأليف حكومة؟ ولم لا تؤلف وفق أحكام الدّستور؟ لم لا نطبّق الدّستور فتجرى الاستشارات ويكلّف رئيس للحكومة يؤلّف حكومة بعيدة عن التّجاذبات السّياسيّة أو المقاربات التّقليديّة والمحاصصة، ترضي طموح الشّعب وتكون مهمّتها إنقاذ البلد؟ إستغلّوا هذا الوعي الوطنيّ عند الشّعب من أجل بناء دولة حديثة، بعيدة عن المذهبيّة والحزبيّة والزبائنيّة، دولة يرنو إليها شبابنا وشاباتنا الّذين برهنوا عن وعي عظيم. الإنجاز فخر الحاكم. المجد باطل لكن الوطن باق.
الكرامة أهمّ من المركز، والوطن أغلى من الأشخاص|، عودوا إلى ضمائركم، أحبّوا شعبكم، إستجيبوا لمطالبه، تخلّوا عن الماضي وسقطاته واتركوا الأجيال النّاهضة تبني المستقبل، أنقذوا وطنكم من الانهيار الّذي نسمع عنه كلّ يوم ونرى آثاره في كلّ المجالات، الأمر يتطلّب وقفة شجاعة يمليها ضمير حيّ، فهلّا أقدمتم؟".