عوده: إنّ طريق الملكوت هو طريق الاتّضاع والفرح والمحبّة
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، نحتفل اليوم بعيد القدّيس بورفيريوس الرّائي، ذاك الشّيخ المملوء نعمةً، الّذي عاش سرّ حضور المسيح في حياته، حتّى صار كلامه وديعًا ومضيئًا ينفذ إلى أعماق النّفس. في إنجيل اليوم ينزل الرّبّ إلى موضع سهل ليلتقي البشر في واقعهم وتعبهم، وينطق بكلمات الطّوبى. المسيح لا يفتّش عن المتفوّقين ولا الممتلئين من ذواتهم، بل عن المنسحقين الّذين يفتحون قلوبهم للنّعمة. هذا ما فعله القدّيس بورفيريوس. فبعدما غادر الجبل المقدّس لأسباب صحّيّة اختار المكوث في أومونيا، المنطقة المليئة بمن يراهم العالم خطأةً. يقول قدّيسنا: "المسيح يطلب قلبك المتواضع لا إنجازاتك. إن أعطيته قلبك أعطاك كلّ شيء". هذا ما عمل على تحقيقه بمكوثه بين مرضى الجسد والنّفس.
عندما يقول الرّب: "طوبى لكم أيّها المساكين لأنّ لكم ملكوت الله" يقصد مساكين القلب، أيّ الفقر الّذي يجعلك تنسلخ عن الإتّكال على ذاتك، وتطلب المسيح وحده. لقد شدّد القدّيس بورفيريوس مرارًا على هذا قائلًا: "لا تبحثوا عن الكمال بجهدكم الشّخصيّ، بل أطلبوا المسيح. إن أتى المسيح إلى قلوبكم يأتي كلّ شيء معه". قال أيضًا: "لا تخافوا من شعوركم بالضّعف. فالضّعف الّذي يقدّم للمسيح يصبح قوّةً". هذا الوعي الوجوديّ العميق هو ما يجعل الإنسان يعيش الطّوبى فعليًّا، لأنّ المسكين بحسب الإنجيل هو الّذي يسكن المسيح في فراغ قلبه، لا الّذي يحاول ملء الفراغ بكبرياء، ساعيًا وراء الزّائلات.
يتابع الرّبّ معلنًا الطّوبى للجائعين، لا إلى جوع الجسد فقط بل جوع البرّ. كان القدّيس بورفيريوس يرى هذا الجوع الرّوحيّ مركز الحياة المسيحيّة. قال: "عندما يحبّ الإنسان المسيح حبًّا حقيقيًّا، يجوع إليه. هذا الجوع لا يتعب النّفس بل يجعلها خفيفةً مثل الرّيح... إنّ النّفس الّتي تذوق حضور المسيح لا تشبع، بل تتحرّق شوقًا لمزيد من النّعمة". في عالمنا الّذي يغمر الإنسان بالمغريات، والمحكوم بالسّرعة والضّوضاء، يصبح هذا الجوع الرّوحيّ علامة الانتماء الحقيقيّ إلى المسيح، ودليلًا على أنّ القلب ما زال حيًّا، لم تخدّره الملذّات الزّائلة.
لمّا تكلّم الرّبّ على الّذين يبكون الآن، قصد البكاء الّذي يولّده العشق الإلهيّ، والانسحاق الّذي يفتح باب التّعزية. قال القدّيس بورفيريوس: "هناك دموع تأتي من الحزن الأرضيّ، ودموع تأتي من نعمة الله. الأولى تتعب النّفس والثّانية تشفيها. أطلبوا الدّموع الّتي يهبها الرّوح القدس". فالبكاء الّذي يطوّبه المسيح ليس بكاء اليأس، بل بكاء التّوبة والحنين إلى الله، وهذا ما يجعل التّعزية تذوّقًا مسبقًا لمجد الملكوت.
إذا انتقلنا إلى رسالة اليوم، نرى أنّ بولس الرّسول يحدّثنا عن ثمار الرّوح الّتي هي علامات سكنى الرّوح في القلب. لقد قال القدّيس بورفيريوس قولًا أساسيًّا في هذا المجال: "لا تتعبوا أنفسكم بمحاولة قسريّة لاقتناء الفضائل. أحبّوا المسيح فقط، والفضائل تأتي وحدها. الفضائل هي ثمرة المحبّة". يلخّص هذا الكلام الرّوح الرّسوليّة الّتي يعبّر عنها الرّسول بولس؛ فالمحبّة والفرح والسّلام والوداعة والعفّة، تنمو حينما يصبح المسيح محور القلب، لا حينما يجهد الإنسان ليفرض على نفسه تغييرًا سلوكيًّا سطحيًّا.
يربط الرّسول بولس بين الحياة بالرّوح والسّلوك بحسب الرّوح، قائلًا: "إن كنّا نعيش بالرّوح فلنسلك أيضًا بحسب الرّوح". يساعدنا القدّيس بورفيريوس في فهم هذه المعادلة بقوله: "إذا أردتم أن تتغيّر حياتكم لا تحاربوا الظّلام. إفتحوا نافذةً للنّور فيختفي الظّلام تلقائيًّا". السّلوك بحسب الرّوح ليس مجهودًا نفسيًّا إنّما انفتاح على النّعمة. ومتى حلّ الرّوح في القلب تغيّر السّلوك تلقائيًّا، تمامًا كما تتفتّح الأزهار حين يأتي الرّبيع.
يضيف الرّسول: "أيّها الإخوة إن أخذ إنسان في زلّة فأصلحوه بروح الوداعة". هنا تتجلّى روح القدّيس بورفيريوس بوضوح، إذ قال: "لا توبّخوا أحدًا بقسوة. إقتربوا من الآخرين بمحبّة، كالطّبيب الحنون الّذي يلمس الجرح بلطف... النّفس الجريحة لا تشفى بالصّراخ أو التّوبيخ، بل بالمحبّة والصّلاة."
يختم بولس بقوله: "إحملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا أتمّوا ناموس المسيح". هذه الوصيّة بالذّات كان القديس بورفيريوس يعيشها بعمق. كان يسهر اللّيالي من أجل النّاس ويقول: "عندما تصلّون من أجل الآخرين، تحملون معهم أثقالهم، عندئذ يعطيكم المسيح فرحًا يفوق كلّ عقل". كان يعتبر أنّ حمل أثقال الآخرين ليس خيارًا، بل علامة أصالة الحياة المسيحيّة، لأنّ المسيح نفسه حمل أثقالنا ودعانا إلى حمل أثقال بعضنا بعضًا. لذلك اتّخذت جمعيّتنا الخيريّة القدّيس بورفيريوس شفيعًا تهتدي بأقواله وبسيرته الشّريفة في عالم يحتاج إلى المحبّة والرّحمة والتّعاطف.
أحبّائي، إنّ تعليم المسيح، وكلام الرّسول بولس، وحكمة القديس بورفيريوس، تلتقي كلّها عند نقطة واحدة، أنّ طريق الملكوت هو طريق الإتّضاع والفرح الرّوحيّ والسّلوك بالرّوح، وطريق المحبّة الّتي تحمل أثقال الآخرين. نحن اليوم، وسط إنشغالات الحياة وضغوطها، مدعوّون إلى عيش هذه الحقيقة بلا خوف، والافتقار إلى مغريات العالم لنغتني بالمسيح، والجوع إلى البرّ ليملأنا الرّوح، ومقابلة التّجارب بسلام القلب، وعيش المحبّة كحمل مشترك، هكذا نصبح على درب القداسة كالقدّيس بورفيريوس وجميع القدّيسين، آمين."
