لبنان
26 تشرين الأول 2021, 05:55

عوده: إن لم تحبّوا بعضكم بعضًا وتتّحدوا فإنّ بلدنا يسير إلى الزّوال بسببكم

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، حيث ألقى عظة قال فيها:

"أحبّائي، كما سمعنا في الإنجيل، كان للرّجل الّذي تسكنه الشّياطين من زمان طويل، ولأهل كورة الجرجسيّين، أسلوبان مختلفان لمواجهة شخص المسيح. فالأوّل، بعد نواله الشّفاء، جلس لابسًا عاقلًا قرب المسيح، يرغب في اتّباعه. أمّا الآخرون، فحالما رأوا الّذي شفي وعلموا كلّ ما يتعلّق بالعجيبة خافوا، وطلبوا من المسيح الابتعاد عن ديارهم. الحدث نفسه، أيّ عجيبة المسيح الكبيرة الّتي تدلّ على قوّته ومحبّته لجبلته البائسة، أحدث ردود فعل مختلفة. هذا الاختلاف في ردّات الفعل يوضح لنا بعض الحقائق الأساسيّة: يظهر لنا الإنسان في سقوطه، وكيف أصبح أكثر خلائق الله عجبًا وتناقضًا. كما يبيّن لنا أنّ كلّ إنسان هو فريد من نوعه، ليس له مثيل، وحرّ في اختياراته.

إنّ الالتصاق بالمسيح أو إنكاره، خياران مطروحان أمامنا بفضل حرّيّتنا. وإذا أردنا أن نكون دقيقين أكثر، نقول إنّ حرّيّتنا تكمن في هذين الخيارين، لأنّ المسيح يشمل الخليقة كلّها، ولذلك ترتبط اختياراتنا الحاسمة المصيريّة بشخصه. رفض المسيح، بغضّ النّظر عمّا يسبّبه، هو من الوجوه السّلبيّة لحرّيّتنا. الّذين يختارون هذا الموقف هم "الباردون" الّذين يقيمون خارج جسد المسيح- أيّ الكنيسة- بسبب جحودهم. هؤلاء تؤول مسيرتهم إلى الكارثة، لكنّ المسيح لا يريد أن يغيّر اختيارهم بسلطته، لأنّه يحترم حرّيّتهم ولا يغصبها.

طبعًا، الحرّيّة في الخيار ليست علامة الكمال، بل هي دليل عدم الكمال. فالإنسان الحرّ، وفقًا لتراث آبائنا القدّيسين، هو الّذي وحّد مشيئته بمشيئة الله تطبيقًا لما يقوله في الصّلاة الرّبّية: "لتكن مشيئتك". هذا صار مسكنًا لله، ثمّ، بفضل حياة النّعمة، تجاوز حدود الولادة والموت، وهما العائقان لحرّيّة الإنسان. أمّا التّردّد قبل الاختيار، فيدلّ على أنّنا لم نكتسب بعد معرفةً واضحةً للخير. طبعًا، في غياب حرّيّة الاختيار، لا نصل إلى كمال الحرّيّة، لأنّنا بالحرّيّة الّتي تتّخذ المحبّة كمحرّك ومقياس، نختار مشيئة الله ونتّحد به. الحرّيّة من دون محبّة كارثة، فنحن نحبّ المسيح ونسمع كلمته، وإذا لم نحبّه حقيقةً لا نقدر أن نتبعه. إذا فهمنا وصاياه كمجرّد تهديد لراحتنا الجسديّة، ولم نر فيها موهبة النّعمة، والتّحرّر من سلطة الخطيئة، نبتعد عن شخص المسيح وكلمته. عندئذ، نصبح كأهل كورة الجرجسيّين، نطلب أن ينصرف عنّا، لأنّه اعترانا خوف عظيم إزاء كلامه الّذي هو أمضى من السّيف.

تكمن دينونة العالم في خياراته، فنحن نختار مصيرنا في الحياة الأبديّة، أيّ نختار الاشتراك في النّور أو رفضه، من خلال طريقة حياتنا وقناعاتنا الفكريّة. يقول المسيح في إنجيل يوحنّا إنّ سبب إدانة الجاحدين هو أنّ النّور- أيّ المسيح- جاء إلى العالم، لكنّ النّاس أحبّوا الظّلمة أكثر من النّور "لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة" (يو 3: 19). نرى هذا الجحود في اختيار أهل كورة الجرجسيّين، وما من سبب لهذا الخيار سوى أنّ أعمالهم كانت شرّيرة. كانوا يرعون الخنازير، وبهذا تعدّوا النّاموس الّذي منع تناول لحم الخنازير. الرّعاة، وهم قادة هذا العصيان، أخبروا سكّان المنطقة بالعجيبة. لقد أضحى الرّجل المخيف، الممسوس، كحمل بريء، غير أنّ زمرة الشّياطين الّتي سكنته دخلت في قطيع خنازير أولئك المتعدّي النّاموس، واختنقت في البحر. أمّا السّكّان فلم يفرحوا لشفاء ابن بلدتهم، بل اعتراهم خوف عظيم ناتج من تعدّيهم للنّاموس. لم يترك هذا الرّعب مكانًا للفرح بانعتاق بلدتهم من الخوف. فقد خلخلت المعصية مقاييس نفوسهم، وخافوا سلام المسيح أكثر ممّا كانوا يخافون الممسوس. أتى سلام المسيح إلى كورتهم، مزيلًا عوارض الخوف وأسبابه، لكنّهم أحبّوا علّة الشّرّ أكثر، لذلك لم يحتملوا توبيخه.

ألا يحدث هذا في بلدنا الحبيب حاليًّا؟ فقد جاء من يدخل بصيص نور إلى ما أفسده الدّهر والسّياسيّون في السّلك القضائيّ، إلّا أنّ الخوف من دينونة العدالة ومحاولة التّهرّب من الإدلاء بالشّهادة حرّك الممسوسين بشياطين الفساد، وجعلهم يختارون ظلمة الحرب والشّقاق والقتل والتّهويل، واقتحام المناطق الآمنة، وترهيب أهلها وطلّاب مدارسها واتّهام المدافعين عن أنفسهم بأنّهم المعتدون والقتلة، بدلًا من أن يفرحوا بالحقّ وإرساء قواعد القضاء النّزيه المستقلّ العادل. كانوا ينادون بالحقيقة والعدالة، لكن ما إن لاحت بوادرها، حتى ارتاعوا وشمّروا عن سواعدهم لوأدها قبل أن تظهر إلى العلن، وتطيح بالمسؤولين الفعليّين عن خراب البلد وتفجيره وإحراقه وانهياره اقتصاديًّا وأمنيًّا وبيئيًّا وتربويًّا وصحّيًّا وأخلاقيًّا. عندما بدأ النّور يبزغ بصمت وخفر، فوجئنا بالظّلمة تدهمه بضجّة خطابيّة تارّةً، وأزيز مرعب طورًا، واختلاق ملفّات أحيانًا، ترهيب قمعيّ دائمًا، ومحاولة النّيل من كلّ من يتجرّأ على الانتقاد أو الرّفض أو المواجهة، بغية التّذكير بأنّ الشّيطان هو سيّد هذا العالم. لكنّنا نذكّرهم بأنّ المسيح طرده بصلبه وموته وقيامته (يو 12: 31). أهل بيروت لن يسكتوا ولن يتراجعوا عن مطالبتهم بالحقيقة ولن يقبلوا أن تكون العدالة انتقائيةً. وعلى الجميع أن يكونوا تحت القانون وفي خدمة العدالة. بدون عدالة لن تكون دولة. لذلك نذكّر المسؤولين، والمسيحيّين منهم خاصّةً، بما قاله الرّبّ يسوع: "كلّ مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكلّ مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت" (مت 12: 25). نحن نسمع هنا وهناك حديثًا عن حقوق الأطراف ومكتسباتها، وحقوق هذا الحزب وتلك الجهة، كما نسمع عن الحفاظ على المسيحيّين وحقوقهم، لكنّنا لا نرى سوى خلافات وخصومات بين الأطراف، وصراعات وتباينات وتنافسًا بين المسيحيّين وإخوتهم المسيحيّين، لإثبات من هو الأقوى والأجدر للحفاظ على تلك الحقوق. هل هكذا علّم المسيح؟ هل طلب الاقتتال من أجله ومن أجل إخوته الصّغار؟ طبعًا لا، بل طلب التّواضع والصّبر والتّسامح، والأهمّ أنّه علّم المحبّة. إن لم تحبّوا بعضكم بعضًا وتتّحدوا فإنّ بلدنا يسير إلى الزّوال بسببكم، وبسبب مصالحكم الّتي اخترتم أن تتقاتلوا من أجلها، بدلًا من توحيد الصّفوف والعمل معًا بغية الخروج من الحفرة الّتي عمّقتموها وأسقطتم الشّعب فيها.

قد نكون أمام الفرصة الأخيرة للخروج من النّفق المظلم إلى رحاب الحياة الكريمة الّتي يسودها العقل والحكمة ومخافة الله، وتحكمها الأخوّة والعدالة وصدق النّيّة وصفاء الضّمير، والإيمان أنّ الله أكبر من كلّ كبير، وأنّه على كلّ شيء قدير.

يا أحبّة، الإيمان هبة من الله، لكنّه أيضًا فضيلة يزرعها الله فينا، ولكي يثمر يتطلّب استجابة حرّيّتنا. الإيمان لا يغصب أحدًا، بل يحرّر ويشفي، ويعتق من أسر الشّيطان والمادّة. لقد زرع الله الإيمان في الممسوس، مريدًا أن يعتقه من سلطة الشّياطين. كان شفاؤه دعوةً من الله وجدت تجاوبًا في استعداده التّامّ. جلس الممسوس عند قدميّ الرّبّ يسوع طالبًا أن يتبعه. لقد قبل أن يتحرّر من الشّياطين والآن هو مربوط بمحبّة الّذي شفاه. خلّصه المسيح من أسر الشّياطين، لكنّه لم يستعبده لنفسه. في البدء كان يساق من الشّياطين، أمّا الآن فصرفه يسوع طالبًا منه العودة إلى بيته. لم يستغلّ عرفانه بالجميل، ولا حماسته، ليضيف تلميذًا آخر يتبعه في جولاته. أرسله إلى بيته، لأنّ في ذلك خلاصًا لنفسه وأقاربه وأهل بلدته أيضًا، وأعطاه وصيّةً بأن يحدّث بما صنع الله به. هكذا جعله رسولًا له، مبشّرًا بمحبّته. هذه الوصيّة يطيعها أيضًا قدّيسو الكنيسة عندما يتكلّمون إلى النّاس، ويحدّثون بما صنع الله بهم. لا يتحدّثون عن مفاهيمهم وفلسفاتهم الخاصّة، بل يخبرون كيف يشفي الله الإنسان ويعتقه من سلطة الشّياطين، وكيف يجعله قادرًا على الاتّحاد به، لعلّه يصبح أخًا للمسيح ووارثًا له، أيّ حرًّا بالحقيقة.

لذلك علينا أن نتحرّر من جميع قيود الشّيطان، الّتي يكبّلنا بها مستعبدًا إيّانا. لقد خلقنا الله أحرارًا، فهل نستخدم حرّيّتنا لكي نقع تحت نير أيّ أمر أو إنسان أو زعيم؟ إستغلّوا حرّيّتكم للتّقرّب من المسيح، حيث الفرح السّرمديّ، وكما سمعنا في رسالة اليوم: "من يزرع شحيحًا فشحيحًا أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد". عسى يكون زرعكم بالبركات لتنالوا الملكوت السّماويّ، آمين."