لبنان
17 تموز 2023, 05:55

عوده: التّهاون في المحاسبة أوصل كثيرين إلى الاستشراس

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده العظة التّالية: "أحبّائي، نسمع في إنجيل اليوم قول الرّبّ: "كلّ من يحلّ واحدةً من هذه الوصايا الصّغار ويعلّم النّاس هكذا، فإنّه يدعى صغيرًا في ملكوت السّماوات، وأمّا الّذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السّماوات". تلخّص هذه الكلمات القليلة عمل الآباء القدّيسين، مميّزةً إيّاه عن عمل الهراطقة. فالآباء القدّيسون يعملون قبل أن يعلّموا، إذ يعلمون أنّ التّربية الحقيقيّة تكون بالأفعال قبل الأقوال، لذلك نجدهم يحاربون الإنحراف والخطأ، ويبتعدون عن العيش تحت تأثيرهما، مبتغين القداسة والتّوبة وعيش المحبّة. أمّا الهراطقة، فعوض أن ينيروا طريق الخلاص أمام الآخرين، يعثّرونهم بالأضاليل والفهم الخاطئ للكلمة الإلهيّة.  

كثيرون يظنّون أنّهم يحملون الحقيقة للبشر، فيما هم يعمّقون الهوّة بينهم وبين الإيمان. كثيرون يجمعون الأتباع عبر التّشهير بالكنيسة وآبائها ومعلّميها وإيمانها، ويقدّمون مسيحًا مفصّلًا على مقاييس هذا الزّمان، مسيحًا لا يمتّ إلى المسيح يسوع بأيّة صلة. لذلك وجدت المجامع المسكونيّة والمكانيّة لكي تنتشل المؤمنين من براثن المعلّمين الكذبة، عبر إرساء العقائد القويمة، ونشر الإيمان الحقّ الّذي لا غشّ فيه. من تلك المجامع المجمع المسكونيّ الرّابع الّذي تعيّد كنيستنا اليوم للآباء المجتمعين تحت رايته في مدينة خلقيدونيا عام 451، لمعالجة قضيّة الطّبيعتين في أقنوم الإبن. فالإيمان القويم يقول بطبيعتي المسيح الإلهيّة والبشريّة، فيما قال معارضو مبدأ الطّبيعتين في شخص المسيح  إنّ "الطّبيعة" تعني "الشّخص"، لهذا لا يمكن أن يكون في المسيح شخصان متّحدان بعضهما ببعض، ما سبّب انشقاق القائلين بطبيعة واحدة في المسيح عن الكنيسة الجامعة المقدّسة. أمّا بقيّة الآباء فأعربوا عن إيمانهم بالإبن الواحد "الكامل من حيث ألوهيّته، والكامل من حيث إنسانيّته، الإله الحقّ والإنسان الحقّ"، واعترفوا باتّحاد الطّبيعتين اتّحادًا جوهريًّا بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط... وبأنّه اتّحاد حقيقيّ في الجوهر والتّركيب".  

كنيستنا الأرثوذكسيّة المتحدّرة من الرّسل تؤمن بطبيعتي المسيح وتقرّ بقوانين المجمع المسكونيّ الرّابع وسائر المجامع المسكونيّة السّبعة، وتحافظ على الإيمان المستقيم والعقائد والتّقليد الّذي تسلّمته من الرّسل.

حبّذا لو يحذو مسؤولونا حذو آباء المجمع الرّابع الّذين عالجوا مسائل كانت تواجه الكنيسة وأصدروا قوانين أحدها قانونًا يمنع الرّشوة والحصول على المناصب والوظائف الكنسيّة بواسطة المال، فقالوا: "إن أجرى أسقف سيامةً لأجل المال، وباع النّعمة الّتي لا تباع، أو عيّن لأجل المال أيًّا من الموظّفين، يتعرّض من يقوم بذلك، إذا ثبتت الواقعة بالبرهان، إلى خسارة رتبته الخاصّة. ومن سيم لا يحصل على أيّ فائدة من سيامته أو ترفيعه الّذي حازه تجاريًّا، وليخسر الكرامة أو الوظيفة المكتسبة بالمال. وإذا بدا أنّ أحدًا كان وسيطًا لأجل هذه المكاسب المخزية والمحرّمة، فليقطع هذا إذا كان إكليريكيًّا من رتبته الخاصّة، وإذا كان علمانيًّا أو راهبًا فليحرم".  

كم يبلغ عدد الموظّفين المحسوبين على الزّعماء في بلدنا، ومنهم كثيرون لا يعرفون الطّريق إلى مركز عملهم، ولا يقومون بأيّ عمل مقابل ما يتقاضون؟ الفساد المستشري في المؤسّسات العامّة بحاجة إلى اقتلاع من الجذور، لأنّه من غير المقبول أن يتحكّم أزلام الزّعماء بحياة النّاس، فيمتنعون عن تسهيل معاملاتهم من أجل تحصيل رشوة، عوض السّهر على المصلحة العامّة.  

لقد وعت الكنيسة منذ نشأتها أنّ الفاسد في الإيمان وأعمال المحبّة مكانه خارجها إلى أن يظهر توبةً حقيقيّة. إلّا أنّ بعض الفاسدين، وهم الهراطقة، تعنّتوا وتشبّثوا بآرائهم الخاصّة وفضّلوا جمع أتباع لهم بدلًا من أن يرشدوا النّاس إلى المسيح، فما كان من آباء المجامع المسكونيّة المقدّسة سوى حرمانهم من الشّركة مع الكنيسة الجامعة خوفًا من أن يستشري الفساد ويهلك القطيع. لقد قال الرّبّ: "من أعثر هؤلاء الصّغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلّق في عنقه حجر الرّحى ويغرق في لجّة البحر" (مت 18: 6).  

الكنيسة لا تقتل ولا تعنّف لكنّها تدلّ على الخطأ وتؤدّب، فحبّذا لو يسير المسؤولون على خطاها، ويؤدّبوا جميع من يتجرّأون على تجاوز القوانين وأذيّة الشّعب. التّهاون في المحاسبة أوصل كثيرين إلى الاستشراس، وقد عاينّا الأسبوع الماضي ما حصل مع الأطفال في إحدى الحضانات من تعنيف وإيذاء جسديّ ونفسيّ. كذلك من سبّبوا كارثة المرفأ ما زالوا أحرارًا وما زلنا ننتظر العدالة. أليس هذا ثمرة عدم المحاسبة الحقّة والعادلة.

هل فقد إنسان لبنان إنسانيته وترك لغريزته الحيوانيّة العنان؟ وإلّا كيف يستطيع إنسان سويّ تعنيف طفل، أو السّخرية من إنسان ذي ضعف، أو إطلاق الاتّهمات والإشاعات عن إخوة له بسبب الحسد أو الحقد أو الانتقام؟ وكيف يستطيع قتل إنسان بدم بارد أو برصاصة طائشة أو بقصد إشعال فتنة؟ وكيف يستطيع كمّ صوت إنسان يعبّر عن رأيه، والحدّ من حرّيّة صحافيّين يبدون رأيهم وقد خلقهم الله أحرارًا؟  

وكيف يتاجر إنسان بصحّة أخيه الإنسان فيهرّب الدّواء خارج الحدود بغية جني الأرباح، ثمّ يبيع المريض دواءً غير مرخّص، وقد يكون غير نافع، فيقضي على المريض عوض شفائه؟ وكيف لا تعاقب السّلطات المختصّة كلّ من يهرّب الدّواء المدعوم من مال اللّبنانيّين من أجل كسب مادّيّ، وكلّ من يتاجر بالأدوية المزوّرة الّتي تؤذي، وقد تسبّب الموت؟ أليس هذا الفلتان وليد عدم المحاسبة؟ كيف تستهين دولة بصحة مواطنيها عوض تأمين العلاج لهم؟ وهذا حقّ لهم وواجب عليها. هل أصبح الفقير والمريض والمحتاج سلعةً رخيصةً أو حقل اختبار؟

دعوتنا اليوم ألّا ننسى أنّ الله يرى ويعرف مكنونات القلوب، وأن  نكون أنوارًا تضيء للجميع كما أوصانا الرّبّ في إنجيل اليوم، وأن نكرّم آباء كنيستنا، ونكون أبناءً صالحين لهم، نسير على خطاهم نحو القداسة، ونهدي الآخرين نحو المحبّة الإلهيّة، ليس قولًا، بل فعلًا، لكي يرى الجميع أعمالنا الصّالحة ويمجّدوا أبانا الّذي في السّموات، آمين."