لبنان
01 آب 2022, 05:55

عوده: الوطن باق ولن يتحرّر إلّا بسواعد أبنائه المتّحدين

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، كان الأعميان، في إنجيل اليوم، يتبعان المسيح صارخين وقائلين: "إرحمنا يا ابن داود" (مت 9: 27). لم يطلبا وحسب بل ألحّا في الطّلب. خرج صراخهما صلاةً مستمرّة. عندما أتيا إلى البيت، تبيّن أنّ صراخهما استند إلى إيمان متين. فعندما سألهما المسيح: "أتؤمنان أنّي أقدر أن أفعل ذلك؟" أجابا بلا تردّد: "نعم، يا ربّ". كان اعتراف الإيمان هذا شرطًا لشفائهما، فلمس الرّبّ أعينهما وقال: "بحسب إيمانكما ليكن لكما". ترك المسيح إيمانهما يحدّد مسبقًا نتيجة فعله، وقد أظهر شفاؤهما أنّ إيمانهما حقيقيّ واعترافهما صادق.

في حادثة شفاء الأعميين هذه وصف لعلاقة الإيمان بالعجائب. في الوقت نفسه، يتبيّن لنا كم يعتني المسيح بحياة البشر، وكيف يدبّر حياتنا من دون أن يلغي حرّيّتنا. فالإيمان الشّخصيّ هو مفتاح الخلاص.

يا أحبّة، لم يعد لدى أبناء هذا البلد الحبيب سوى أن يصرخوا كالأعميين: "إرحمنا يا ابن داود". فبعد مرور سنتين على أحد أضخم التّفجيرات العالميّة، لا يزال اللّبنانيّون عمومًا، وذوو الضّحايا وجميع المتضرّرين خصوصًا، ينتظرون انتهاء التّحقيق وصدور نتائجه. سنتان من الوعود الواهية، ومن القهر والفقر والذّلّ والعتمة الشّاملة. سنتان من الجدالات العقيمة، آخرها ما شهدناه في الجلسة التّشريعيّة الأولى للمجلس النّيابيّ الجديد، الّتي كنّا نتوقّع أن تكون جلسة إقرار مشاريع إصلاحيّة ضروريّة، فإذا بها تقف شاهدًا على أنّ المسؤولين في هذا البلد لا يهتمّون بالإصلاح، ولا يعرفون التّكاتف، لكنّهم يمتهنون التّناكف. سنتان مضتا والشّعب يئنّ فقرًا وجوعًا وعطشًا ومرضًا، وما من مستمع لتأوّهاته سوى الإله الرّحوم الّذي يرسل من يغدقون من محبّتهم ورحمتهم ليساندوا أبناء جلدهم، فيما أصحاب الجلود القاسية ما زالوا يتحاصصون، ويتاجرون بدماء الأبرياء الّذين قدّموا على مذبح الوطن. سنتان مرّتا، والعملة الوطنيّة تنحدر مع المواطن إلى الجحيم، ولم يستطع أحد ممتهني الخطابات والتّصريحات والوعود من كبح جماح الإنحدار الاقتصاديّ، بسبب تعنّتهم والسّعي وراء مصالحهم الشّخصيّة، ففضّلوا المماطلة على العمل الجدّيّ لإنقاذ من وما تبقّى في بلد فجّرت عاصمته، وهاجر أبناؤه وتعطّلت إدارته ويئس شعبه وفقد ثقة العالم به، بلد يعاني أزمات ماليّة واقتصاديّة ومعيشيّة وسياسيّة، والتّواصل فيه معدوم بين من يجب أن يكونوا مركز القرار والعاملين على إنجاز الإصلاحات.

سنتان مرّتا، وفي كلّ يوم منهما كان يتمّ إلهاء الشّعب عن الواقع المرّ بأزمة أو قضيّة، سياسيّة أو اقتصاديّة أو دينيّة أو اجتماعيّة. حيكت الملفّات، ابتدعت قضايا، برّئ مجرمون وجرّم أبرياء، كلّ ذلك من أجل إضاعة البوصلة عن درب الحقيقة. اليوم، وبعد عامين، نعيد المطالبة، باسم جميع أبناء بيروت المنكوبة، ببذل أقصى الجهود من أجل استكمال التّحقيق وإظهار الحقيقة كاملةً، وتطبيق القانون على كلّ من يظهرهم التّحقيق على صلة قريبة أو بعيدة بتفجير المرفأ.

بعيد التّفجير وعدنا بتحقيق سريع يستغرق خمسة أيّام. وها عامان ينقضيان ولا تحقيق ولا حقيقة، بسبب تعطيل التّحقيق حينًا والاستقواء على المحقّق أحيانًا. كلّ ذلك من أجل تضييع الحقيقة وطمس كلّ ما يساهم في كشفها. لكنّ ضحايا الجريمة يماتون مجدّدًا مع كلّ ذكرى تمرّ، والمصابين وكلّ من تأذّى في جسده أو ممتلكاته يكتوي بنار الغضب مع كلّ يوم يمرّ دون أن يحرّك المسؤولون ساكنًا لحلّ هذه المعضلة.

ولكي تكتمل المأساة يبدو أنّ الدّولة تريد أن تمحو من الذّاكرة كلّ ما يذكّر بفاجعة بيروت، لذا تهمل ما يحصل في الأهراءات من حرائق قد تؤدّي إلى سقوطها، بعد أن قوبل إعلانها عن نيّتها بهدم الأهراءات بالرّفض والاستهجان. الدّول الرّاقية تخلّد ذكرى المآسي الّتي تعيشها بالمحافظة على الشّواهد عليها، فيما تحاول دولتنا طمس كلّ الأدلّة عوض إبرازها لتكون عبرةً للمستقبل.

يا أحبّة، ليست القوّة ما يبني الأوطان. الأوطان تبنى على العدالة واحترام القوانين وتطبيقها، وعلى حفظ سيادتها مصانةً من كلّ تعدّ، وعلى وحدانيّة قرارها وجهوزيّة جيشها وتماسكه.  

لذلك، لا بدّ لنا في العيد السّابع والسّبعين للجيش، من الدّعاء إلى الرّبّ إلهنا كي يحفظ جيش بلادنا، قائدًا وضبّاطًا وعناصر، وأن يعضده في مهامه الوطنيّة، وأن يرحم كلّ من ارتقى منه شهيدًا، وأن يمنحه القوّة والغلبة على كلّ متربّص، كونه الوحيد المتمتّع بشرعيّة الدّفاع عن كلّ شبر من أرض هذا الوطن الحبيب.

أحبّائي، كما لم يمنع عدم النّظر الأعميين من إعمال عيون الإيمان، وطلب رحمة الله، هكذا على كلّ لبنانيّ ألّا يعمي عينيه الجسديّتين بصورة زعيمه، بل أن ينظر عراقة لبنانه وجماله وعمق الثّقافة المتجذّرة فيه. على كلّ لبنانيّ، مقيم أو مهاجر، أن يتشبّث بأرضه، وألّا يسمح لأصوات التّفرقة بأن تعلّي الحواجز بين الإخوة. الزّعماء فانون، مع أنّهم يتصرّفون وكأنّهم خالدون، أمّا الوطن فباق، ولن يتحرّر إلّا بسواعد أبنائه المتّحدين، الّذين عليهم ألّا ينتظروا المصائب ليجتمعوا، بل أن يبقوا يدًا واحدةً في وجه كلّ خطر وشرّ ومكيدة.

في النّهاية، بما أنّ بني البشر لم يعملوا لخلاص أبناء جنسهم، فإنّنا ننتظر المعجزة من لدن الله الرّحيم، الّذي يعرف متى يخرجنا من أتون النّار المتوقّد، مثلما أخرج الفتية الثّلاثة القدّيسين من النّار. المطلوب منّا واحد، وهو أن نؤمن بأنّ الرّبّ وحده "قادر" على خلاصنا. الله يقول "كن" فيكون. هذا ما فعله مع الأعميين، إذ أعاد لهما البصر، وهذا ما نؤمن بأنّه سيحدث معنا، إذا آمنّا.

رحم الله كلّ من ارتقى من هذه الحياة الأرضيّة الزّائلة، فداءً عن وطننا الحبيب، وأصبح في أحضان إبراهيم، حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد، بل حياة لا تفنى. وبارك أبناء هذا الوطن الأوفياء له رغم كلّ الصّعوبات. آمين."