لبنان
14 آب 2023, 07:45

عوده: دعوتنا اليوم هي إلى الإيمان بالرّبّ يسوع، مهما اشتدّت المحن

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائية القدّيس جاورجيوس- بيروت، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"أحبّائي، بعدما تجلّى الرّبّ يسوع على جبل ثابور، انحدر مع تلاميذه الثّلاثة من الجبل، فوجدوا أنّ الكتبة والفرّيسيّين انتهزوا فرصة غيابه، وجاؤوا ليجرّبوا بقيّة التّلاميذ، لكي يحرجوهم ويظهروا عدم قدرتهم على طرد الأرواح النّجسة. يظهر الفرّيسيّون عديميّ الإيمان لأنّهم لا يزالون يطلبون الآيات والمعجزات لكي يتأكّدوا من حقيقة الرّبّ يسوع، وهذا ما حذّر منه المسيح تلاميذه قائلًا: «إحذروا من خمير الفرّيسيّين والصّدّوقيّين» (مت 16: 6)، وكان يعني بكلامه تعليمهم.

كلّ مرضٍ شفاه المخلّص «في الشّعب» كان يمثّل عللًا مختلفةً في النّفس. فعمى الجسد مثلًا كان يمثّل العمى الرّوحيّ. في إنجيل اليوم، كان الصّبيّ مصابًا بالصّرع، وهذا مرضٌ يصيب المبتلين به في فتراتٍ محدّدة، فيبدو المريض صحيحًا معافًى، ثمّ تجتاحه نوبة الصّرع فتلقيه أرضًا. هكذا بعض «المؤمنين» الذين يمارسون الصّلاة والفضائل وما يرتبط بهما، ثمّ يصابون بنوعٍ من الصّرع الرّوحيّ بسبب الأهواء، فيطرحون أرضًا، أيّ تستولي عليهم رغبات هذا العالم.

لقد لام الرّجل تلاميذ الرّبّ لعدم قدرتهم على شفاء ابنه، إلّا أنّ الرّبّ يتوجّه إلى الجنس البشريّ ككلّ بقوله إنّه جيلٌ أعوج، أيّ بدل الإيمان الشّافي دخل عليه انحراف الخطيئة.

لقد برّأ الرّبّ تلاميذه الملامين علنًا عندما أجاب: «أيّها الجيل غير المؤمن الأعوج، إلى متى أكون معكم؟ حتّى متى أحتملكم؟» مخاطبًا اليهود على أنّهم غير مؤمنين، ويشكّون به وبتلاميذه مفتكرين بهم أفكارًا غير لائقة. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم إنّ وجود المسيح بين هذا الشّعب كان يؤلمه، وليس الصّلب، لذلك رحّب بالموت قائلًا: «حتّى متى أحتملكم؟».

لقد أصاب التّلاميذ دهشٌ لأنّهم لم يقدروا أن يخرجوا الرّوح النّجس، مع أنّ المسيح سبق وقال لهم: «أشفوا المرضى، طهّروا البرص، أقيموا الموتى، أخرجوا الشّياطين» (مت 10: 8). لذا، يحثّ الرّبّ تلاميذه على الصّلاة والصّوم، والكلام موجّهٌ إلينا أيضًا. يقول المغبوط أغسطينوس: «إن كان المرء يصلّي ليخرج الشّيطان من شخصٍ آخر، فكم عليه أن يكثر من الصّلاة ليطرد جشعه وسكره وفجوره ونجاسته؟ يا لعظم خطايا البشر! إن تمادوا فيها هي لا تدعهم يدخلون ملكوت السّماوات».

كان لدى اليهود مثلٌ يستعملونه عندما يستطيع أحد الكتبة تفسير نصٍّ صعبٍ من الكتاب، فيقولون إنّه «أزاح جبلًا». هنا، كأنّنا بالمسيح يقول لهم إنّ التّحلّي بالإيمان يمكنه صنع المعجزات الأصعب من تفسير النّصوص النّاموسيّة، إذ حتّى معرفة المعاني الإلهيّة من دون إيمانٍ هي غير نافعةٍ. الإيمان المترافق مع الصّلاة والصّوم، إضافةً إلى معرفة الكتاب، يستطيع أن يخلّص النّفوس والأجساد، وأن يزيح عنها جبال الآلام النّاتجة عن الأمراض المتأتّية من الخطايا، ومن العلل كالصّرع.

لقد حضر المسيح إلى تلاميذه في الوقت المناسب، عندما كان الكتبة والفرّيسيّون يهزأون بهم وبفشلهم في إخراج الرّوح النّجس، وبهذا يعلّمنا الرّبّ أنّه سيكون دومًا مع كنيسته في الأوقات المناسبة، ليرفع عنها الحرج ويسكت المتكلّمين عليها باطلًا، لأنّه «في وسطها فلن تتزعزع» (مز 46: 5). هذا ما وعدنا به الرّبّ قائلًا: «متى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلّمون، لأنّكم تعطون في تلك السّاعة ما تتكلّمون به، لأن لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم» (مت 10: 19-20).لذلك أرسل الرّوح القدس المعزّي بعد موته وقيامته وصعوده إلى السّماوات، ليعين الكنيسة والمؤمنين في تصدّيهم للمضادين، ولم يتركنا «يتامى» كما وعدنا.

يا أحبّة، نعيّد بعد يومين لرقاد والدة الإله العذراء مريم. الفرق بين والدة الإله وبين الفرّيسيّين والكتبة أنّها كانت مؤمنةً، تثق بأنّ من حملته في أحشائها هو الإله القادر على كلّ شيءٍ، لذلك مثلًا، نجدها تقول بثقةٍ للخدّام في عرس قانا: «مهما قال لكم فافعلوه». لم تشكّك في قدرته على اجتراح الآيات والمعجزات، بل كانت مثالًا للمؤمن الحقيقيّ الّذي يضع كلّ شيءٍ بين يديّ الرّبّ، كما نقول في كلّ صلواتنا: «لنودع أنفسنا وبعضنا بعضًا وكلّ حياتنا للمسيح الإله». عندما نجيب بعبارة: «لك يا ربّ» كأنّنا نقول: «لتكن مشيئتك لا مشيئتنا»، فهل نعني ما نقول؟ كانت والدة الإله تحفظ كلّ شيءٍ في قلبها، لأنّها كانت تؤمن بأنّ كلّ شيءٍ يتعلّق بابنها وإلهها هو لخير البشريّة بأسرها. أمّا نحن، فكلّما مرض أحدٌ، أو مات، أو متى واجهتنا مشكلةٌ، مهما كانت صغيرة، نلقي اللّوم على الرّبّ، ونسائله عن الأسباب الّتي تكمن وراء كلّ حدث. قليلون هم من يضعون أنفسهم وأبناءهم وعائلاتهم بين يديّ الرّبّ حقًّا.

يا أحبّة، ليت بإمكان المواطن أن يضع ثقته بعد الله بالمسؤولين وبالسّياسيّين والزّعماء المتحكّمين بالبلد! ليته يتمكّن من اللّجوء إليهم عند كلّ مشكلةٍ تعترضه، أو أن يحاسبهم عند كلّ سقطةٍ أو خطأٍ يرتكبونه! لكنّهم فوق المحاسبة، وجريمة المرفأ أبرز دليل. فكيف يثق المواطن بهم وبالقضاء؟

أملنا أن يعودوا إلى رشدهم، ويعوا أخطاءهم، ويسمعوا صوت الضّمير، ويصبّوا كلّ اهتمامهم في مصلحة البلد والمواطن كي لا يفرغ لبنان أكثر من أبنائه. 

لقد أعلنوا بيروت عاصمةً للشّباب العربيّ. هذا جيد. ولكن ماذا عن شباب لبنان؟ هل فكّروا بأنّ معظم شباب لبنان قد هاجروا وربّما إلى غير رجعة؟ أين الطّاقات؟ أين الكفاءات التي ستبني لبنان المستقبل؟ أين الأدمغة التي ستنقذ لبنان؟ ألا يتوجّب على من بيدهم السّلطة تأمين البيئة الفضلى لتشجيع شبابنا على البقاء والعمل والإبداع؟

دعوتنا اليوم هي إلى الإيمان بالرّبّ يسوع، مهما اشتدّت المحن، وواجهتنا عواصف هذا العمر، وإلى الرّجاء الكامل به وهو خالق السّماء والأرض وما عليها، والعالم بمكنونات القلوب، و«القلب المتخشّع والمتواضع لا يرذله الله» كما يقول كاتب المزامير. حبّذا لو نتمثّل بوالدة الإله، الّتي عاينت ابنها مصلوبًا وميتًا مدفونًا، لكنّها كانت واثقةً بأنّه سيقوم ويتمجّد ويمجّد البشريّة معه، مخلّصًا إيّاها من خطاياها، آمين."