لبنان
12 شباط 2024, 07:20

عوده: دعوتنا اليوم هي إلى شكر الرّبّ على عطاياه، الصّغيرة قبل الكبيرة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشية بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"بإسم الآب والابن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم كيف وزّع السّيّد الوزنات على عبيده، كلٍّ حسب طاقته، دون أن يبخل على أحدٍ. لم يميّز الواحد عن الآخر، لكنّه عرف قدرة كلّ عبدٍ، فأعطى الواحد خمس وزناتٍ، والآخر وزنتين، والثّالث وزنةً واحدةً. السّيّد لا يحابي الوجوه. نسمع الرّبّ في سفر تثنية الاشتراع يقول: «لا تحابوا وجه أحدٍ في الحكم، واسمعوا للصّغير سماعكم للكبير» (1: 17). السّيّد لا يبحث عن أزلامٍ له، فيعامل القويّ بمحاباةٍ، والأضعف بازدراء، بل يساوي بين الجميع لأنّ حكمه عادل، هو القائل: «كما أسمع أحكم، وحكمي عادل» (يو 5: 30). بهذه العدالة سوف يدين الرّبّ الجميع بحسب أمانتهم للوزنة المعطاة لكلٍّ منهم. 

الله لا يمنح المواهب بشكلٍ إعتباطيٍّ، بل يعرف ما يناسب خلاص كلّ شخصٍ، وهذا يساعدنا على ألّا نستكبر على ذوي المواهب القليلة، وألّا نحسد أصحاب المواهب الكثيرة، إنّما نشكر الواهب على عطاياه الممنوحة لنا. يقول الرّسول بولس: «أنواع مواهب موجودة، ولكنّ الرّوح واحد. وأنواع خدمٍ موجودة، ولكنّ الرّبّ واحد. وأنواع أعمالٍ موجودة، ولكنّ الله واحد، الّذي يعمل الكلّ في الكلّ، ولكنّه لكلّ واحدٍ يعطى إظهار الرّوح للمنفعة» (1كو 12: 4-6). بعد ذلك يعدّد الرّسول أنواع المواهب المتعدّدة ويخلص إلى القول: «لكنّ هذه كلّها يعملها الرّوح الواحد بعينه، قاسمًا لكلّ واحدٍ بمفرده كما يشاء» (12: 11). يذكّرنا الرّسول بولس هنا بأنّ العطيّة، صغيرةً كانت أو كبيرةً، هي من المعطي الواحد، الّذي علينا أن نشكره دومًا على عطاياه.

الله لا ينتظر الرّبح بذاته، ولا يهتمّ بكمّيّته، بل يهتمّ بمدى أمانة عبيده أو إهمالهم. لقد اقتنى العبدان الأوّلان «الأمانة بالوكالة»، فتأهّلا لأن يقاما على الكثير. أمّا العبد الثّالث فكان مهملًا لأنّه أخفى الوزنة وعاش عاطلًا عن العمل. إنّ الرّبح يجلب ربحًا، والخسارة تأتي بخسارةٍ أكبر، فكيف إذا كان هذا الرّبح أو الخسارة من ناحية العطايا الإلهيّة؟! كذلك الخطيئة تجلب خطيئةً أكبر، الأمر الّذي حصل مع صاحب الوزنة الواحدة، الّذي، بعدما طمر وزنته وعاش عاطلًا عن العمل، قام باتّهام سيّده بالقسوة والظّلم، محاولًا طمر خطيئته بخطيئةٍ أبشع، كما فعل بالوزنة. خلال الصّوم الكبير نردّد صلاة القدّيس أفرام السّريانيّ القائل: «أعتقني من روح البطالة... والكلام البطّال». العبد صاحب الوزنة الواحدة سقط في خطيئة البطالة، وحاول أن ينجّي نفسه فسقط في الكلام البطّال. يقول القدّيس يوحنّا كرونشتادت: «كلّ خطيئةٍ تبدو بسيطةً وغير هامّةٍ تقود إلى خطايا أخطر، لذا علينا مقاومتها في بدايتها وسحقها». كذلك، يحذر بولس الرّسول، بشكلٍ غير مباشرٍ، من خطيئة الكسل قائلًا: «الويل لي إن لم أبشّر» (1كو 9: 16)، أي ويل لمن منح موهبةً ولم يفعّلها في سبيل خير الجميع.

مكافأة العبد المجتهد كانت قول سيّده له: «أدخل إلى فرح ربّك»، على عكس ما سمعه العبد الكسول: «إطرحوه في الظّلمة الخارجيّة». جهادنا على هذه الأرض ليس بهدف ربحٍ مادّيٍّ، بل من أجل الدّخول إلى العرس الأبديّ لنبقى في الدّاخل، فلا نحرم من التّمتّع برؤية الله، النّور الحقيقيّ، ويحكم علينا بالبقاء في الظّلمة خارج الباب المغلق، مثلما حدث مع العذارى الجاهلات. يقول القدّيس يوحنّا كرونشتادت أيضًا: «إنّ خدمتنا الأرضيّة المتنوّعة لملكنا ووطننا هي صورة لخدمتنا الرّئيسيّة لملكنا السّماويّ، هذه الّتي يجب أن تستمرّ أبديًّا، وهذا ما يلزمنا: أن نخدمه بحقٍّ قبل الكلّ... الخدمة الأرضيّة هي محكّ، وخدمة بدائيّة للخدمة السّماويّة».

إنّ وطننا وزنة أعطيت لنا من الربّ كي نحافظ عليه، وننمّيه، ونفعّل طاقاته، ونفتح لها أبواب العمل والإثمار والإبداع، ولكي نجعل منه وطن العدالة والقانون وحقوق الإنسان، والأخوّة والتسامح والتفاعل . لكنّنا منذ عقودٍ لا نرى سوى من يستبيح سيادة الوطن ويجعله مطيّةً إمّا لمطامعه أو لأطرافٍ تستغلّه لمصالحها، حتى أصبح ورقة مساومةٍ في يد الأقوياء، يستعملونها لما يناسبهم. كما نرى من يسخّر خيرات الوطن لخيره، أو من يستبيح كرامة أبنائه لغاياتٍ، ومن يغتال مفكّريه وأحراره، ومن يقحمه في حروبٍ رغم إرادة معظم أبنائه. أليس هذا طمراً للوزنة التي أعطيت لنا وتجاوزًا لمشيئة الربّ المانح الوزنات؟ 

يرمز صاحب الوزنات الخمس للمؤمن الّذي يقدّم كلّ حواسّه لسيّده السّماويّ، مقدّسًا إيّاها بواسطة استخدامها في خدمة أخيه الإنسان. أمّا صاحب الوزنتين، فيشير إلى المؤمن الّذي امتلأ قلبه بمحبّة أخيه في الرّبّ، الّذي فيه يصير الإثنان واحدًا. لهذا قدّم السّامريّ درهمين لصاحب الفندق علامةً على محبّته للمجرّح، والأرملة قدّمت فلسين دلالةً على محبّتها لله ولإخوتها المحتاجين. لهذا أيضًا وجد ملاكان عند قبر المسيح إشارةً إلى المحبّة الّتي تربط السّماويّين بالأرضيّين، فصار الكلّ جسدًا واحدًا في الرّبّ يسوع المصلوب والقائم. أمّا صاحب الوزنة الواحدة فهو كلّ إنسانٍ متقوقعٍ على نفسه، وأنانيٍّ، يدفن المحبّة بدلًا من مشاركتها مع أخيه الإنسان.

يا أحبّة، بلدنا يحوي الكثيرين من أصحاب الوزنات، لكنّهم إمّا يدفنون وزناتهم يأسًا من الأوضاع الّتي آلت إليها بلادنا، أو يوضعون في غير الأماكن المناسبة لهم فلا يتمكّنون من تثمير وزناتهم فينكفئون، أو يهاجرون ليستثمروا وزناتهم خارج أرضهم. بلدنا يحتاج كلّ ذي موهبةٍ، كما يحتاج إلى تفعيل جميع المواهب حتّى يصار إلى إخراج الشّعب من الهوّة العميقة الّتي حفرت له. ولا شكّ في قدرات أبناء أرضنا وسعة جهادهم في سبيل الخروج وإخراج الكلّ معهم، إلّا أنّ ذوي السلطة يجتهدون في تحطيم المواهب، وإيصالهم إلى اليأس والموت النّفسيّ والرّوحيّ، بعدما أمعنوا في قهرهم وسدّ جميع الطرق أمامهم وإغلاق جميع الأبواب. لذا نحن بحاجةٍ إلى رئيسٍ يتولّى مع حكومته بناء المؤسّسات، وتعيين الأكفّاء في مراكز القيادة، دون محاباةٍ أو محسوبيّة، لكي يقوم كلّ مسؤولٍ بواجبه من أجل المصلحة العامة.

دعوتنا اليوم هي إلى شكر الرّبّ على عطاياه، الصّغيرة قبل الكبيرة، وإلى تفعيل المواهب المعطاة لنا، كلّ في اختصاصه ومجاله، دون التّعدّي على مجالات الآخرين «في طهارةٍ... في محبةٍ بلا رياء، في كلمة الحقّ، في قوّة الله» كما سمعنا في الرسالة. بهذا يتناسق البنيان، لأنّ المحبّة تكون أساس العمل، فيسير الجسد كلّه بتناغمٍ، ويعمل كلّ عضوٍ عمله بدقّةٍ، فنصل إلى الخلاص المنشود، آمين."