عوده: على الجميع أن يتوحّدوا تحت راية الدّستور
وبعد الإنجيل، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، نقيم اليوم تذكارًا جامعًا للآباء القدّيسين المجتمعين في المجمع المسكونيّ الرّابع في مدينة خلقيدونيا. يعد مجمع خلقيدونيا المسكونيّ، الّذي عقد عام 451، أحد الأحداث المحوريّة في التّاريخ المسيحيّ المبكّر، وقد تناول الخلافات اللّاهوتيّة الّتي كانت لها آثار عميقة على تطوّر العقيدة المسيحيّة ووحدة الكنيسة. سعى هذا المجمع، الّذي ترأّسه الإمبراطور ماركيان، إلى حلّ النّزاعات حول طبيعتي المسيح الإلهيّة والبشريّة، وحول سلطة الأساقفة، وإلى ترسيخ الإطار العقائديّ الّذي سيشكّل قاعدة الإيمان المسيحيّ لقرون مقبلة.
كان العالم المسيحيّ في منتصف القرن الخامس منقسمًا حول المسائل اللّاهوتيّة المتعلّقة بطبيعتي المسيح. مجمع نيقية المنعقد في العام325 تناول الخلاف مع آريوس وأكّد أنّ المسيح "مساو لله الآب في الجوهر"، رافضًا ادّعاء آريوس بأنّ المسيح كائن مخلوق. مع ذلك، ظهرت نقاشات جديدة حول العلاقة بين طبيعتي المسيح البشريّة والإلهيّة.
كان أوطيخا، أحد أبرز الشّخصيّات في هذا النّقاش، وهو أرشمندريت في القسطنطينيّة، تبنّى وجهة نظر منفردةً مفادها أنّ طّبيعة المسيح البشريّة قد ابتلعت وتلاشت باتّحادها مع الطّبيعة الإلهيّة. تعارض هذا الرّأي مع تعاليم هرطوقيّة سابقة كتلك الّتي روّج لها نسطوريوس، الّذي فصل في شخص المسيح بين ابن الله الكلمة الّذي لم تقع عليه الولادة ولا بقيّة الصّفات البشريّة مثل الجوع والألم، وبين يسوع الإنسان الّذي وقعت عليه هذه الصّفات. أدّت هذه الخلافات إلى خلاف كبير داخل الكنيسة، الأمر الّذي دفع الإمبراطور ماركيان والبابا لاون الأوّل إلى الدّعوة لعقد مجمع لتسوية الأمر نهائيًّا.
في شهر تشرين الأوّل من العام 451 اجتمع أكثر من خمسمئة أسقف في خلقيدونيا، وهي مدينة تقع على مضيق البوسفور في القسطنطينيّة، لمعالجة الخلافات اللّاهوتيّة. حضر المجمع ممثّلون عن الكنائس المسيحيّة الشّرقيّة والغربيّة بهدف تبيان الحقيقة في مسائل العقيدة. إتّسمت أعمال المجمع بمناقشات ومداولات مكثّفة، كان محورها صياغة عقيدة من شأنها توضيح موقف الكنيسة من طبيعتي المسيح. وقد أنتج المجمع التّعريف الخلقيدونيّ، وهو بيان عقائديّ يحدّد الموقف الأرثوذكسيّ حول طبيعتي المسيح.
أكّد التّعريف الخلقيدونيّ على عدّة مبادئ أساسيّة، أوّلها الإعتراف بيسوع المسيح "في طبيعتين، بلا اختلاط، بلا تغيير، بلا انقسام، بلا انفصال". هاتان الطّبيعتان، الإلهيّة والبشريّة، متّحدتان "في شخص واحد وأقنوم واحد". وقد أيّد المجمع تعاليم مجمع نيقية، مؤكّدًا على أزليّة طبيعة المسيح الإلهيّة وكمالها، مع التّأكيد على حقيقة طبيعته البشريّة وكمالها.
قدّم التّعريف الخلقيدونيّ إطارًا لاهوتيًّا أساسيًّا يوضّح للأجيال المقبلة من المسيحيّين اتّحاد الطّبيعتين الإلهيّة والبشريّة في شخص المسيح. فقد وضع حدًّا لكلّ من آمن بالطّبيعة الواحدة كأوطيخا، وبالنّسطوريّة، وأسّس ما أصبح فيما بعد العقيدة المسيحيّة القويمة. كذلك عزّز مجمع خلقيدونيا مفهوم المجامع المسكونيّة كهيئات ذات سلطة في الكنيسة، وقد لاقت قراراته قبولًا على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم المسيحيّ، ما يدلّ على إمكانيّة اتّخاذ موقف عقائديّ موحّد رغم الاختلافات الإقليميّة واللّاهوتيّة.
رغم محاولته إرساء الوحدة المسيحيّة، ساهم مجمع خلقيدونيا في مزيد من الانقسامات إذ رفضت عدّة كنائس مقرّراته ما أدّى إلى انشقاق مستمرّ حتّى يومنا. مع ذلك، يبقى المجمع المسكونيّ الرّابع الخلقيدونيّ حدثًا محوريًّا في التّاريخ المسيحيّ، لأنّه عالج الخلافات اللّاهوتيّة الحاسمة وشكّل مسار التّطوّر العقائديّ. إنّ تأكيد الطّبيعة المزدوجة للمسيح في شخص واحد أو أقنوم واحد قد وفّر إطارًا لاهوتيًّا مستمرًّا حتّى يومنا.
لذا، دعوتنا اليوم أن نعرف تاريخ كنيستنا، والجهاد الّذي قام به آباؤنا القدّيسون لإرساء قواعد الإيمان القويم الثّابتة، وأن نفتخر بتقليدنا، وألّا ننقاد إلى تعاليم ملتوية يقدّمها ذئاب خاطفة، خصوصًا في عصر التّواصل الاجتماعيّ، حيث يسهل اصطياد من لا يكون ثابتًا على صخرة الإيمان. لذا، إقرأوا كتابكم المقدّس، إطّلعوا على عقائدكم القويمة وحافظوا عليها، ولا تساوموا على الإيمان بل كونوا أنوارًا مشعّةً بالحقيقة تهدي كلّ من يلفحه نورها.
يا أحبّة، كما أنّ العقيدة هي بمثابة دستور للكنيسة، أي المبادئ الأساسيّة الّتي تشكّل جوهر إيماننا، المبادئ الّتي نتمسّك بها ونحافظ عليها ونتناقلها جيلاً فجيل، هكذا هو دستور بلدنا الّذي ينبغي علينا التّمسّك به وتطبيقه بأمانة دون استهانة به أو مسّ بجوهره، من أجل الحفاظ على البلد وتماسكه ووحدته. فالدّولة الّتي لا دستور تحترمه، أيّ لا قاعدةً صلبةً تستند عليها، دولة معرّضة للتّفكّك والضّياع. لذا على الجميع أن يتوحّدوا تحت راية الدّستور، وأن يطبّقوه ويسيروا ببلدهم إلى الأمام، أن يتقدّموا، أن يحدثوا التّغيير اللّازم بوضوح وشفافيّة، وبلا تباطؤ، وإلّا نكون متخلّفين عن محيطنا، وخاسرين، لأنّ الجميع يتقدّم بسرعة فائقة والوقت ثمين والفرص تضيع. كذلك على الدّولة أن تفي بوعودها والتزاماتها، وأن تقوم بالتّغيير المنشود، والتّشريعات الضّروريّة، والتّعيينات الموعودة على الأسس الواضحة الّتي وضعتها، وألّا تبقي على العادات الممجوجة الّتي سئم منها المواطنون لأنّها حوّلت الدّولة إلى قطعة حلوى يتقاسمها الأقوياء على حساب المواطن الضّعيف. حان وقت فرض هيبة الدّولة وتطبيق القوانين ووقف الزّبائنيّة والاستزلام والإستقواء والفرض والتّعطيل، وعدم اعتماد معايير واضحة ترسي العدالة والشّفافيّة، وتبثّ الإطمئنان إلى أنّ مسيرة التّغيير قد بدأت.
أملنا أن تحمل الأسابيع القادمة بشائر إنهاء حالة اللاإستقرار السّياسيّ والاقتصاديّ، وإجراء الإصلاحات الضّروريّة، وتطبيق الاتّفاقات، وتسريع عجلة التّعيينات وملء الشّواغر الّتي تتيح ضخّ دم جديد في شرايين الإدارة، تكون نتيجتها عملًا وإنتاجًا وتغييرًا وأملًا جديدًا برجال دولة مشوا الخطوات الأولى في مسيرة الإصلاح والإنقاذ والعصرنة".