لبنان
04 كانون الثاني 2023, 09:45

عوده في بداية السّنة الجديدة: نرفع الصّلاة إلى ربّ الكون كي يحفظ هذا البلد من كلّ شرّ ومكروه

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة ذكرى ختانة يسوع المسيح بالجسد وتذكار القدّيس باسيليوس الكبير ورأس السّنة، ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، بعدما عيّدنا الأسبوع الماضي لتجسّد ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، وتنازله ليكون تحت النّاموس البشريّ، نعيّد اليوم لإتمامه إحدى فرائض هذا النّاموس، أيّ الختانة بالجسد. كما نقيم تذكار القدّيس باسيليوس الكبير، رئيس أساقفة قيصريّة كبّادوكيا.

الختان في العهد القديم كان بمثابة عهد يقطع بين الله والشّعب (تك 17: 11)، يمارسه الإنسان في ذاته كعلامة لا تمحى من جسده. وكما أنّ الختان هو ختم العهد القديم، أصبحت المعموديّة ختم العهد الجديد.

لقد ساوى المسيح نفسه بالبشر عندما تجسّد، ثمّ أتمّ هذه المساواة كما أوصى الله في العهد القديم: "إبن ثمانية أيّام يختن منكم كلّ ذكر في أجيالكم" (تك 17: 12).

يقول الرّسول بولس: "ختان القلب بالرّوح لا بالكتاب هو الختان الّذي مدحه ليس من النّاس بل من الله" (رو 2: 29). كلام الرّسول يأتي تأكيدًا على ما جاء في سفر تثنية الاشتراع حيث نقرأ: "ويختن الرّبّ إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك فتحيا"(تث 30: 6).  

في أعمال الرّسل يقول القدّيس استفانوس أوّل الشّهداء: "يا قساة الرّقاب، وغير المختونين بالقلوب والآذان! أنتم دائمًا تقاومون الرّوح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم" (أع7: 51). اليهود لم يتمّموا الشّريعة الموسويّة، مع أنّهم يقولون إنّهم مؤمنون ومتمسّكون بها، إلّا أنّهم كانوا مرائين، يحاسبون الآخرين على عدم تطبيق حرفيّة النّاموس، ويتهاونون هم في إتمامه. الأمر نفسه قاله المسيح: "ويل لكم أيّها الكتبة والفرّيسيّون المراؤون، لأنّكم تغلقون ملكوت السّماوات قدّام النّاس، فلا تدخلون أنتم، ولا تدعون الدّاخلين يدخلون" (مت 23: 13).

لقد ارتضى المسيح أن يخضع لحرفيّة النّاموس لكي يعتق البشر من العبوديّة لتلك الحرفيّة، وينقلهم إلى العيش بحسب روح الله. يقول القدّيس كيريلّلس الإسكندريّ: "المسيح افتدى من لعنة النّاموس أولئك الّذين، بوجودهم تحت النّاموس، كانوا عاجزين عن إتمام قوانينه. وبأيّة طريقة افتداهم؟ بإتمامه النّاموس... فبعد ختانه أبطل طقس الختان بمجيء ما كان يرمز له، أيّ المعموديّة". لهذا، يقول الرّبّ يسوع: "لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض النّاموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (مت 5: 17).

إذًا، تمّم المسيح فرائض النّاموس لكي يكمّل المسيرة ويحرّر الجميع من الفرائض الحرفيّة، من العبوديّة، جاعلًا الجميع أبناءً لله. لذلك يقع عيد الختانة بين التّجسّد الإلهيّ والظّهور الإلهيّ، إذ بالتّجسّد بدأ مشروع التّبنّي، وبالختانة مهّد له، وبالمعموديّة أكمل بعهد جديد وضعه المسيح بديلًا عن الختان. ولكي يقدّم الإنسان شيئًا من جسده عربون عهد بينه وبين الله، يقصّ شعره بعد تغطيسه وصيرورته ابنًا في المعموديّة.

بإتمامه الختان، أظهر المسيح، أنّه هو نفسه كان معطي النّاموس في العهد القديم، لأنّ على المشترع أن يحترم الشّريعة ويطبّقها. لقد رفع الرّبّ النّاموس دون أن ينتهكه، وأظهر أنّه علينا نحن أيضًا أن نحفظ ناموس الله الّذي يهدف إلى خلاصنا. هنا ندرك رفعة المسيح واختلافه عن المشترعين الأرضيّين. هؤلاء يفترض أنّهم مؤتمنون على الاشتراع وتطبيق الشّرائع والقوانين والدّستور، لكنّهم يفعلون عكس ذلك كلّيًّا، لا بل يجتهدون في تفصيل قوانين على قياسهم، لا تناسب أحدًا سواهم. كما نراهم يتعدّون القوانين، ويتفاخرون بأنّهم يطبّقونها، إنّما فقط على الضّعفاء والمساكين والعزّل. أليس هذا ما حصل في ملفّ تفجير المرفأ الّذي ما زلنا ننتظر انتهاء التّحقيق فيه؟

إنّ ما يميّز المشرّع الإلهيّ عن مشرّعي الأرض، والحاكم السّماويّ عن حكّام الأرض، هو الصّدق والأمانة للعهد وإقران القول بالفعل. ربّنا لم يطلق الشّعارات ولم يكثر من التّصاريح بل علّم بحياته وكان القدوة. لم يعلّم النّاس بالكلام أن يحبّوا بل أحبّ حتّى بذل نفسه على الصّليب. لم يعلّم اليهود بالقول احترام الشّريعة بل طبّق أحكام الشّريعة وسما بها فجعلها عهد محبّة وأخوّة ومساواة واحترام، عهد عدل ورحمة وإنصاف.

إن لم يتعلّم ملوك الأرض وحكّامها من الملك الإلهيّ سيبقون في الظّلمة وظلال الموت. عالمنا شبيه بالأرض القاحلة الّتي يقع فيها الحبّ الّذي بذره الزّارع ولم ينبت لأنّها لم تتقبّل البذار. هكذا كلمة الله لا تدخل قلوب كثيرين ولا تفعل فعلها فيها لأنّها رفضتها. المطلوب انفتاح العقل والقلب وتقبّل كلمة الله الّتي تدعونا إلى تقبّل الآخر ومحبّته والمحافظة عليه واحترام حرّيّته لا التّعدّي عليها وقمعها كما يحصل في بلدنا.

في مستهلّ هذا العام الجديد نرفع الصّلاة إلى ربّ الكون كي يحفظ هذا البلد من كلّ شرّ ومكروه، ويلهم المؤتمنين عليه كي يعملوا بجهد وتفان وإخلاص من أجل إنقاذه. وعناوين الإنقاذ واضحة. فإنتخاب رئيس للبلاد ثمّ تشكيل حكومة تجري إصلاحات جدّيةً وجذريّةً هي الطّريق الوحيد للخروج من الانهيار. التّباكي لا ينفع والاستعطاء لا يجدي. لا يمكننا أن نطلب من الخارج مساعدتنا إن لم نساعد أنفسنا. علينا جميعًا أن نهبّ لإنقاذ بلدنا، كلّ في مجاله. هل أصبح انتخاب رئيس تفصيلاً في دولة مفكّكة، ومجلس نوّاب مبعثر، وأطراف تتقاذف المسؤوليّة، وفي جوّ تشنّج وتحدّ وضرب للدّستور وتجاوز لاتّفاق الطّائف الّذي يتمسّك به الجميع قولاً ويخرقونه بأفعالهم اليوميّة؟

أملنا أن ينتفض النّوّاب المدركون أهمّية دورهم، على الوضع القائم، ويطالبوا بتطبيق الدّستور، والشّروع بفتح جلسة انتخاب لا تختم إلّا عند انتخاب رئيس قادر على أن يعيد للرّئاسة دورها وهيبتها وقدرتها على التّواصل والحوار وسلوك طريق الخلاص، رئيس يكون فعلاً رمز وحدة الوطن وحامي الدّستور. وأيّ دستور سيحمي؟ ذاك الّذي كان مرجع الرّئيس شهاب، يلجأ إليه في كلّ الأمور؟ أم ذاك الّذي انتخب بموجبه الرّئيس فرنجيه بفارق صوت واحد عن منافسه؟ أم الدّستور الّذي تلاعبوا بتفسيره وشوّهوه؟ لو كان التّوافق على اسم الرّئيس مطلوبًا لما نصّ الدّستور على انتخاب رئيس بل على تعيين رئيس.

يا أحبّة ليس لدى المؤمن سوى أن يرفع الدّعاء إلى الرّبّ من أجل الحصول على الخلاص، وعلى قوّة الصّبر والاحتمال إلى حين تحقيق هذا الخلاص. لهذا، نصلّي مع القدّيس باسيليوس الكبير القائل: "أذكر يا ربّ شعبك، وارحمهم بعظيم رحمتك. إملأ خزائنهم من كلّ خير. إحفظ زيجاتهم في سلام ووئام. ربّ الأطفال. هذّب الأحداث. شدّد الشّيوخ... إجمع المتفرّقين. ردّ الضّالّين... رافق المسافرين. إعتن بالأرامل. أعضد اليتامى. أنقذ الأسرى. إشف المرضى... أذكر أيّها الرّبّ إلهنا شعبك كلّه، وأسبغ على الجميع رحمتك الغنيّة... إفتقدنا بخيريّتك وتجلّ لنا برأفاتك الغزيرة. هبنا الأهوية معتدلةً ونافعة، جد على الأرض بأمطار هادئة لإنتاج الغلّات، بارك مدار سنة خيريّتك... أخمد تشامخ الأمم... إقبلنا جميعًا في ملكوتك مظهرًا إيّانا بني النّور وبني النّهار، هبنا سلامك ومحبّتك"، آمين".