لبنان
03 كانون الثاني 2022, 06:55

عوده في رأس السّنة: خلاص لبنان عبر تخلّي اللّبنانيّين عن عبادة وثن الزّعيم وماله ومساعداته الموسميّة

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة ذكرى ختانة يسوع المسيح بالجسد وتذكار القدّيس باسيليوس الكبير ورأس السّنة، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في ساحة النّجمة.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، فيما يعيّد العالم اليوم لانطلاق عام أرضيّ جديد، تعيّد الكنيسة المقدّسة لختانة ربّنا يسوع المسيح بالجسد، وللقدّيس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصريّة كبّادوكيا.

السّنة الجديدة كنسيًّا تبدأ في الأوّل من شهر أيلول، معلنةً انطلاق دورة ليتورجيّة جديدة. مع ذلك، تصلّي الكنيسة اليوم من أجل العالم، كي يكون عامه الجديد عامًا مملوءًا خيرًا وبركةً، بعيدًا عن التّعلّق بالدّنيويّات، وموصلًا إلى الله والسّماويّات.

أحبّائي، سنة أخرى انطوت، وبلدنا رازح تحت نير الشّقاء والألم والموت، لا فرح فيه ولا حياة، إنسانه مقهور وحزين، حائر بمصيره، يسأل إلى متى الصّبر والأعوام تمرّ، والعمر يمرّ، والأحلام تنقضي لأنّ الأمل يتضاءل يومًا بعد يوم، والإيمان بقيامة هذا البلد يكاد يهجر نفوس أبنائه من شدّة ما عانوا وما زالوا يعانون. لكنّ الإله الّذي عيّدنا لميلاده بالجسد منذ أسبوع هو رجاؤنا الوحيد، هو الّذي افتدانا بدمه الكريم وقهر الخطيئة والشّرّ والموت، باذلاً نفسه من أجل أن نربح نفوسنا ونركن إلى محبّته ورحمته.

نقرأ في سفر الرّؤيا: "وسمعت صوتًا عظيمًا من السّماء قائلًا: هوذا مسكن الله مع النّاس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كلّ دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأنّ الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش: ها أنا أصنع كلّ شيء جديدًا! وقال لي: أكتب فإنّ هذه الأقوال صادقة وأمينة... أنا هو الألف والياء، البداية والنّهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجّانًا. من يغلب يرث كلّ شيء، وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا. أمّا الخائفون وغير المؤمنين والرّجسون والقاتلون والزّناة والسّحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتّقدة بنار وكبريت، الّذي هو الموت الثّاني" (رؤ 21: 3-8).  

اليوم بدء سنة جديدة، بدء زمن نرجو أن يكون مختلفًا عمّا سبقه، جديدًا. لكنّ الجدّة لا تكون إلّا بتخلّينا عن كلّ ما اقترفناه من شرور وخطايا، والاتّحاد بمن هو "الألف والياء، البداية والنّهاية"، الّذي يصنع كلّ شيء جديدًا. إنّ التّجديد الّذي على الإنسان أن يسعى إليه يجب أن يكون تجديدًا مباركًا من الرّبّ، مليئًا بالأفكار الحسنة الّتي تترجم أفعالًا وأقوالًا تصبّ في مصلحة كلّ النّاس، لا في مصلحة الأنا وحدها. هذا ما فعله الرّبّ بتجسّده، إذ تسربل بشريّتنا من أجل خلاصها، وزرع الفرح مكان الدّموع، والحياة بدل الموت، والصّحّة مكان الألم والمرض. أراد الرّبّ أن يظهر للبشر محبّته العظيمة، فتجسّد وتحمّل مفاعيل الجسد إذ تنازل ليحتمل الختانة، ثمّ اقتبل المعموديّة، ثمّ تألّم ومات وقام، لكنّ الإنسان لم يحسن التّصرّف تجاه الخالق، وبدل الشّكران، لحق بالأوثان وما زال. أوثان زماننا هي المال والسّلطة والشّهوة والزّعماء والممتلكات. كلّ هذه سعى إنسان اليوم وراءها، على حساب أخيه الإنسان وراحته وحتّى حياته. سرقه. حسده. نافسه. قاتله وقتله ليعيش هو. احتكر الضّروريّات ليسلبه ماله فكان أن سلبه حياته أحيانًا. أحرق الغابات من أجل بيع الدّفء لأخيه الإنسان، فجعله يخسر الرّئة الطّبيعيّة، وقد شاهدنا كمّيّات الأشجار الّتي أعدمت في بلدنا العام المنصرم، دون أن يتحرّك مسؤول لمعاقبة المفتعلين ولإعادة التّشجير. بدل العمل من أجل مستقبل أفضل، مؤمنين بأنّ الرّبّ لا يترك خليقته، انتظر النّاس بشغف إطلالة المنجّمين على الشّاشات حتّى يرتووا من تضليلهم، مبتعدين عن الرّبّ الّذي وعد شعبه قائلًا: "إنّ هذه الأقوال (أيّ أقوال الرّبّ) صادقة وأمينة". يعيش إنسان اليوم خوفًا، لا بل رعبًا من المستقبل الغامض، خصوصًا في بلدنا الّذي لم تعد فيه أيّ ضمانة بمستقبل واعد، إلّا أنّ هذا الرّعب يدلّ على قلّة إيمان بالله الّذي سيجعل كلّ شيء جديدًا، حتّى ولو طالت فترة الانتظار. "الموت الثّاني" الّذي سمعنا عنه في سفر الرّؤيا رهن بطريقة عيشنا وبموقفنا تجاه الرّبّ ومحبّته ورحمته. هل سيبقى الشّعب من "الخائفين" و"غير المؤمنين"؟ هل سيتحوّل إلى جماعة "رجسين" و"قاتلين" و"زناة"؟ هل سيبقى من أتباع "السّحرة"، أو من "عبدة الأوثان" ويصدّق "الكذبة" الّذين يعدون ولا يصدقون؟ السّنة المنصرمة كانت مليئةً بالموت المتظهّر بتفجير المرفأ وقتل وتشريد الآلاف، وبانهيار الاقتصاد وفقدان الغذاء والدّواء، وبتبخّر أموال النّاس من المصارف، وبتراجع القطاع التّربويّ والصّحّيّ، وقد عانى المواطن كلّ هذا، ولا يزال، لكن إلى متى؟ هل سيختار الشّعب عيش الموت الثّاني هذا العام؟ هل سيبقى مخدّرًا، مغسول الدّماغ، بسبب وعود وخطابات واهية تعود إلى السّاحة كلّ أربع سنوات لتعيد نفسها؟ الآن، وقد حدّدت مواعيد الانتخابات رسميًّا، على كلّ إنسان في هذا البلد الحبيب، أن يعي مسؤوليّته  ويمارس حقّه الدّيمقراطيّ، بل واجبه الوطنيّ، ويختار من يرى فيهم الأمل بالتّغيير وإرادة العمل للإنقاذ. على الشّعب أن يختار من يقدّم برنامج عمل واضح ويتعهّد بتطبيقه بأمانة وإخلاص للوطن والمواطن، بعيدًا من المصلحة الشّخصيّة أو الحزبيّة، ومن الزّبائنيّة والارتباطات الخارجية. هذا العمل ستعود نتائجه على الشّعب كلّه، وسيحدّد مصير الزّمن الآتي إن كان للخير أو للموت، على أمل ألّا يكون أحد من الشّعب مساهمًا في جلب هذا الموت عليه وعلى أبناء بلده معه.

يا أحبّة، على الإنسان ألّا يقول إنّه، بمفرده، لا يستطيع أن يغيّر شيئًا. أبرز مثال على ذلك هو القدّيس باسيليوس الكبير الّذي نعيّد له اليوم. لقد قام هذا القدّيس، وحده، ببناء "المدينة الباسيليّة"، الّتي ضمّت المستشفيات وأماكن إيواء الغرباء، والمدارس، وغير ذلك ممّا كان الشّعب يحتاجه. كلّ إنسان مدعوّ للعمل من أجل الجماعة ككلّ، وهذا ما تمثّله الكنيسة الجامعة، وهي ليست مجموعة أفراد أنانيّين يعمل كلّ منهم لمصلحته الشّخصيّة، بل هي مجموعة أشخاص، أصغوا إلى كلمة الرّبّ، ويعملون معًا من أجل نشرها والعمل بهديها، من أجل  المنفعة العامّة. لقد سمعنا في قراءة إنجيل اليوم أنّ المعلّمين، الّذين كانوا من الحكماء والفهماء، أصغوا إلى الكلمة الإلهيّة الخارجة من فم الرّبّ يسوع، ابن الثّانية عشرة من العمر، معلّمًا البشر كيف يتواضعون ويصغون بتأنّ لمن يأتيهم بكلمة الله.  

في هذا اليوم المبارك نرفع الدّعاء إلى ربّ السّماء والأرض كي ينير عقول من يتولّون شؤون هذا البلد، ويطهّر قلوبهم ونيّاتهم ليعملوا على تضميد جراحه وشفائه من محنته. لقد أصبح لبنان في عداد الدّول الفاشلة بسبب سوء إدارة الدّولة، والفساد المستشري في القطاع العامّ. أصبح لبنان أرضًا سائبةً، دولةً بلا حدود لأنّ حدودها غير مضبوطة عن قصد أو عن غير قصد، أصبح موئلاً للمهرّبين والفاسدين، وساحةً للعصابات ومكبًّا للنّفايات وبلد المتسوّلين. التّشبّث بالرّأي تارّةً وبالحقيبة طورًا عطّلا البلد. زرع المحاسيب في الإدارة شلّ عمل الإدارة. التّغاضي عن الفاسدين وعدم محاسبة كلّ من يسيء إلى الدّولة أغرقا البلد في الدّيون والمشاكل. مسايرة بعض الأطراف على حساب السّيادة،  وسياسة المقاطعة الّتي مارسها أكثر من طرف، والاستقواء بالسّلاح، عطّلت الدّولة ومؤسّساتها. التّصعيد السّياسيّ والسّجالات والاتّهامات المتبادلة والعصبيّات المذهبيّة زادت التّوتّر وعمّقت الشّرخ بين الفئات الحاكمة حتّى أصبح البلد كلّه معطّلاً ومشلول الأعمال، والخاسر الأكبر هو المواطن الّذي لم يعد قادرًا على إطعام أولاده وتعليمهم. حتّى الفئات الميسورة أصبحت في العوز بسبب حجز أموالها في المصارف. والمؤسف أنّ المسؤولين، عوض معالجة الوضع وبذل جهود لا محدودة من أجل إنقاذ البلد، هم أنفسهم يشكون من سوء الوضع. لكنّ توصيف الحالة لا يجدي لأنّ الجميع واعون خطورته.  المواطن يريد أجوبةً، ينتظر حلولاً. المطلوب معالجة حقيقيّة. المطلوب قرار واضح وعمل دؤوب. المطلوب رجال دولة يتحلّون بالشّجاعة والإقدام. على كلّ مسؤول أن يقوم بواجبه على أتمّ وجه، وأن يحترم دستور البلد وقوانينه، وأن يعمل بنزاهة وإخلاص وتجرّد، واضعًا مصلحة الوطن فوق كلّ مصلحة. نحن في دولة الجميع فيها يخالف القانون. أجهزتها تخالف القانون، والمسؤولون لا يطبّقون القانون، والعصابات فيها لا تهاب القانون. أليس واجبًا على المسؤولين أن يفرضوا هيبة الدّولة ويعتمدوا المحاسبة والعقاب؟ وأن يحاسبوا أنفسهم أوّلاً ويقوّموا اعوجاجها؟ من يدّعي العفّة لكنّه يغطّي الفاسدين ولا يفضح أعمالهم هو فاسد ومذنب مثلهم. من يغضّ الطّرف عن سلاح خارج الشّرعيّة مجرم بحق الوطن. من لا يحاسب المسيئين إلى الدّولة وسيادتها وهيبتها شريك في الإساءة إلى الدّولة. من يعيق قيام الدّولة أو يصادر قرارها أو يورّطها في نزاعات هي بغنىً عنها لا يعمل من أجل مصلحتها. أمّا مجلس النّوّاب، الّذي هو مجلس ممثّلي الشّعب، فعليه العودة إلى دوره الطّبيعيّ في المراقبة والمحاسبة والتّشريع الشّفّاف غير المرتبط بالمصالح.

يا أحبّة، نصلّي أن يكون هذا العام المقبل علينا، عام الخلاص للبنان واللّبنانيّين. عامًا يجد فيه المريض دواءه بسعر معقول، والجائع طعامه من دون أن يحتاج إلى توسّله من أحد. عامًا يجد فيه الطّفل حليبه، والمرأة حقوقها وإنصافها في القانون، وكبار السّنّ كرامتهم مصانة. نصلّي أن تجد العدالة طريقها إلى التّحقيق في مأساة العاصمة، من دون تدخّل في عمل المحقّق أو تعطيل، حتّى ترتاح قلوب ذوي الضّحايا، وتكفكف دموع كلّ من أصابه الضّرر. نسأل الرّبّ أن يغدق الرّحمة على قلوب المسؤولين، حتّى يرأفوا بالشّعب، ويعملوا من أجل خلاص المواطنين لا من أجل الإجهاز على من تبقّى منهم في أرض الوطن. دعاؤنا أن يسكب الله الوعي في عقول أبناء لبنان حتّى يعرفوا أنّ خلاص أرضهم بيدهم، عبر تخلّيهم عن عبادة وثن الزّعيم وماله ومساعداته الموسميّة.

ألا بارك الله هذا العام الجديد، ومنحكم سؤل قلوبكم، وشفاء مرضاكم، وراحة نفوس موتاكم، وخلاص نفوسكم، آمين".